إيسى رائي امجمل

لا تعجل -عزيزي القارئ- فقد تعرف معنى كلمات العنوان، وقد لا تعرفه.

وكي أدخل بك أو أقرّب المعنى أقول لك: كنت أظن أن بعض إخوتنا اليمنيين هم وحدهم الذين ينطقون »العين« همزة، وعلى العكس من ذلك ينطقون »الهمزة« عينا.

وكمثال على ذلك، أن أحد المغنين -وليس المغني الأصلي- كان يغني أغنية »سألت العين« فيقول: »سعلت الأين«. كنت أظن ذلك حتى قرأت كتاب الدكتور عبدالرحمن الرفاعي »الحلقة المفقودة في امتداد عربية اللهجات السامية« لأجده يقول: »إن السريانية والبابلية والآشورية كلها آرامية، والآرامية عربية في لغتها ونشأتها ونسبها إلى عنصرها، ولا يمكن أن تعرف لها نسبة إلى أمة غير الأمة العربية في عهودها الأولى«.

وبعد أن يستشهد بمجموعة من اللهجات -لا يسع المقام هنا ذكرهايقول: لو أننا عدنا إلى منطقة الشريط الجبلي في جنوب جزيرة العرب، لوجدنا قبائل هذه المواقع ما تزال ألسنتها تنطق كل تلك الكلمات المشار إليها كما كانت تنطق بالسريانية وأخواتها، ففي جبال »فيفا« وما حولها نجد بعضا من قبائلها ما زالوا يقلبون الهمزة عينا، وبعضهم العكس، إذ يقولون في »أسد.. عسد« وفي »عالم.. آلم .«

الذي جعلني أكتب هذه المقدمة، هو ذلك الرجل الرثّ الثياب، المنكوش الشعر، الحافي القدمين، الهائم على وجهه في منعطفات الأزقة والشوارع الضيقة، الذي يحزم وسطه بحبل من الخرق البالية، ويترك فراغا بين جلدة بطنه وثوبه، ليجمع فيه ما تجود به الزبالات وأكوام القمائم، من فضلات الطعام والعلب الفارغة وبقايا أغصان خضراء، يكوّمها في جانب فمه ولا يكف عن مضغها.

ذات مرة، قابله أحد الأشخاص من ذوي الشأن والوقار -دون معرفة سابقة بحاله- وعندما نظر إلى شدقه المنتفخ وشفاهه المصبوغة بالاخضرار، سأله بلهجة استنكار: وش هو ذا الذي في فمك؟ وبكل برود وسخرية ولا مبالاة أجابه الرجل: إيسى. ولأن السائل لم يعرف المعنى كرر السؤال: وش هو إيسى؟ فرد الرجل: إيسى رائي امجمل. أي »عيسى راعي الجمل.«

وعيسى راعي الجمل -في جازانمعناها: إيش دخلك يا حشري، أو يا لكع. قالها ومضى في حال سبيله، دون أن يعير سائله أي أهمية، وعلى طرف لسانه تتردد عبارته المعروفة لكل من يلاقيه. »يك يكين.. ارجع ورا.. أنت في طريقك وأنا في طريقي«.

رحمك الله يا »عمر ضماري«، لقد كنت مجنونا حكيما، وأعتقد أنهم عندما قالوا: »خذ الحكمة من أفواه المجانين« كانوا يقصدونك بهذه العبارة.