Al-Watan (Saudi)

نقلة حضارية 1

-

لكل مجتمع – مهما كانت فعاليته – قدرة على العطاء تتفاوت، بتفاوت رغبة أفراده في العمل والبناء، وما يتاح لهم من وسائل للتدريب والتعليم، وما يتوفر لهم من إمكانات وموارد وفرص عمل من أجل النماء والتطور.

وإذا كان المجتمع -أي مجتمعيدين بقيم تحث على العمل النافع، ويعتنق مبادئ تحض على الجهد المثمر في إطار من المحبة والتعاون والإخاء – وتلك وأيم الله سمات المجتمع المسلم – فإن قدرة أفراد هذا المجتمع على العطاء الصادق لا تحدها حدود، ولا يقف أمامها عائق إلا ما يتعارض مع تلك القيم والمبادئ التي تحرك الطاقات، وتفجر الإرادات، ويصبح معها دور كل فرد معروفا، وواجبه محددا، فيؤديه ضمن النظم والقواعد، ويقوم بواجبه من خلال ما ينفذ من مشاريع، وما يتاح من فرص، وتكون محصلة جهد الأفراد وعملهم مقياسا لمعدل الإنتاجية الوطنية.

والإنسان السوي يولد بالفطرة محبا للعمل والمثابرة، حريصا على الرفع من مستوى محيطه الذي يعيش فيه اقتصاديا، واجتماعيا فينطلق بسجيته أساسا للعمل بجهد والعطاء بفعالية، ليؤمن مأكله ومسكنه وملبسه ويستفيد مما تيسره له البيئة المحيطة به من مصادر وموارد، وما يعينه به مجتمعه من وسائل وأسباب، بما في ذلك التعليم والتدريب حتى يتمكن من الوصول بغاية وجوده في الحياة إلى منتهاها من العمل الصالح والجهد النافع.

وإذا ما أمن مأكله وملبسه ومأواه انطلق خفيفا يجمع ما يفيض عن حاجته من متاع الحياة الدنيا وزرفها، يتباهى بنعمة الله عليه عند غيره، ويتحدث بها لسواه ويظهرها على نفسه، ويحقق بها مطالبه وأحلامه وأمانيه، ولا اعتراض على ذلك، فالله جلت قدرته يحب أن يرى آثار نعمته على عباده كما ورد في الأثر، ولكن واجب النعمة الشكر.

والإنسان يتعرض بمزيد من النعمة لامتحان فاصل، فإما أن ينحاز إلى رغبات نفسه وأهوائها فيدخل بذلك عالم الرغبات الواسع الفسيح المليء بشتى أصناف الأهواء، الغني بمختلف ألوان النزوات، فهو عالم يحفه التقليد، وتميزه المحاكاة، وله مداخل متعددة، وطرقات متشعبة، ومنزلقات متعرجة تجعل المقيم فيه فريسة للترف والدعة، فينسى تبعاته ومسؤولياته، ويغفل عن هدف وجوده في الحياة ويقصر في جهده وتنعدم فعاليته ويخسره مجتمعه ولا منجي له منه إلا الله.

وإما أن يستثمر جهده وماله وما جمع من متاع الدنيا في نفع نفسه ومن يعول ثم مجتمعه وأمته، في حدود ما يرضى الله، فيعيش هادئ النفس مطمئن الفؤاد قرير العين متفاعلا مع مجتمعه بيسر، مبرزا إنتاجه بغزارة ويتميز عطاؤه بتدفق، فينسجم بتضحياته مع أمثاله من العاملين بإخلاص، وينتج عن ذلك مجتمع عامل نشط لا مكان فيه لكسول أو متكاسل ولا دور فيه لمتخاذل أو مقصر.

وتبقى إنتاجية المجتمع -أي مجتمع- رمزا لتفاعل إرادات أفراده وتناسق تضحياتهم، وامتزاج قدراتهم، مؤشرا لقيمة العمل الاجتماعية فيه، فهي تتناسب تناسبا طرديا مع الجهد والتضحية والأداء وتظل إنتاجية المجتمع المحور الأول والمحصلة النهائية لما يتعايش به المجتمع ويعيش فيه من مظاهر وسمات، وما يربط بين أفراده من روابط وصلات، واليوم وأنا أستجمع أفكاري حول موضوع إنتاجية المجتمع، هذا الموضوع الحيوي الهام الذي يمس اللبنة الأساسية لكل ما تنفذه الدول من خطط وبرامج في مجالات التنمية العديدة والمتشعبة، والذي يرتبط بصورة مباشرة بما يجب أن يبذل من جهد وعناء وما يقدم من تضحية ومجاهدة في سبيل تدعيم مسيرة التطور، وتعميق مشوار النماء، أقول اليوم وأنا أستجمع أفكاري حول موضوع إنتاجية المجتمع أجدني أستذكر أياما خوالي شهدت أول لقاء لنا مع الحضارة الغربية في عقر دارها في الولايات المتحدة الأميركية، كنا قد ذهبنا إليها لأول مرة دارسين، لا متنزهين، ولا متاجرين، واستقبلنا الحياة الدراسية هناك بإيقاع سريع ما شهدناه من قبل ولا من بعد في معاهدنا وجامعاتنا العربية، على اختلاف أقطارها، ولقد سقط كثير من زملائنا أمام هذا الإيقاع السريع، لا عن تخلف في الذكاء والاستعداد، ولكن عن عدم قدرة على الاستجابة لمثل هذه السرعة في الإيقاع.

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia