Al-Watan (Saudi)

لا بد من بعض التضحيات

- نصر أبو زيد

لا سبيل أمامنا جميعا لتجاوز أزمتنا الراهنة على جميع المستويات والأصعدة إلا بمحاولة الوصول إلى نظام تعليمي قادر على تنمية قدرات الفرد الذهنية والعقلية والعضلية بل والخيالية أيضا، بالإضافة إلى تنمية حواسه التذوقية للآداب والفنون.

ولا شــك أن إشــاعة مناخ الحريــة في الثقافة والمجتمع شرط مهم جدا لوضع أساس هذا النظام التعليمي المرجــو. ولا نقصد بمناخ الحرية الدلالة السياســية التي تتبادر إلى الذهن حين تذكر كلمة الحريــة«. وهي الدلالة التــي تقصرها على حرية التصويت وإنشاء الأحزاب وإصدار الصحف... إلخ. إن ما نقصده بالحرية المطلوبة في المجتمع تتجاوز تلك الدلالات رغم أهميتهــا التي لا يمكن إنكارها. إنها حرية التفكير والنقاش والبحث والحوار دون كوابح أو شروط مســبقة ودون أهــداف بعينها يسعى المفكر أو الباحث للوصول إليها.

الكوابح والضوابط مطلوبة في »التربية« وليست في »التعليــم« وعلينا أن نــدرك أن ولوج الطالب أبــواب الجامعة معناه أهليتــه الذهنية والعقلية

لتقبل الآراء والاتجاهات ومناقشتها دون مصادرة على المطلوب.

وإذا كان من المضحــك أن تتدخل أي قوى، ولو كانت جامعيــة، في منع هذه النظريــة أو تلك من النظريات الاقتصاديـ­ـة أو العلمية من أن تدرس في الجامعة، فإنه من المحزن أن تتدخل تلك السلطات لمصادرة نص أدبي على أســس دينية أو أخلاقية. ذلك أن معناه أن تتحول الجامعة إلى مدرســة، وأن يتحول الطالب الجامعي إلى متلقٍ بليد خامل. وليت المأساة تقف عند هذا الحد، بل تُفضي هذه السلطوية إلى خنق الأســتاذ المبدع المفكر، وتستبدل به الأستاذ الملقن مــوزع المذكرات، أو مؤلــف الكتب المقررة. ويتم ذلك كله بدعوى »المحافظة« على القيم والأسس الاجتماعية، وهي دعــوى تنتهي إلى التثبيت العقلي لمجموعة من الأصول التي تتحول إلى أصول مقدسة. وتصبــح المعرفة تردادا وتكرارا لما ســبق قوله، أو شرحاً لملخصات أو تلخيصاً لشروح.

لكــن الأخطر من ذلك - والأدهــى والأمر - أن الجامعة تمثل بهذه البنية العقيمة المزود الأساس للمجتمــع بالزاد الثقافي والفكــري.. وهذا يفسر شيوع اللجوء إلى السلطة لحسم الخلافات الفكرية ومحاصرة التعددية العقلية، وليس مهما أن يكون الوصف صحيحا أو باطلا لأن المقصود اللجوء إلى الســلطة وتجنب الحوار والنقاش، وهو المطلوب لإشــاعة مناخ الحرية والتحرر، بل وصل الأمر إلى محاولة وضع ضوابط جامعية للمباح والممنوع لا في نشاط الطلاب فقط، بل في اجتهادات الباحثين والأساتذة أيضاً. ونتساءل بعد ذلك كله عن منابع الإرهاب ووسائل محاربته!

إن الجامعة هي نقطة البدء والختام فى العقلانية والحرية والتنوير.

يشــيع ذلك في جنباتهــا، وداخل قاعاتها فتعكســه في مرأة المجتمع، في حياته الاقتصادية والسياســي­ة والعقلية، ثم ينعكس وقد زاد نوره ولمع داخلها مــرة أخرى فيتحقق التقدم وتستقر أمور الحياة وتنمو كل إمكانياتها. ولن يكون لتحرير الاقتصــاد بالقانــون وحده من نتيجة سوى الفوضى إن الاقتصاد الحر جزء من ســياق الفكر الحر الذي لا يقدر على تحمل مسؤوليته إلا المواطن الحر. ولا ســبيل لهذا المواطن إلا بالتعليــم الحر. وليس التعليم بالمصروفات.

والذين يخشــون مــن الحرية يتســترون وراء عدم الاستعداد الذهني والعقلي استناداً إلى مستوى الطلاب الهابط.

لكن المؤسف أن هذه كلها مبررات لا تُفضي إلى تجاوز الحالة.

ولكي نتجاوز الحالة لا بــد من بعض التضحيات. وكما تحملنــا ونتحمــل بعض مفاســد »الانفتاح الاقتصادي« حرصاً على تجــاوز الأزمة الاقتصادية، علينــا أن نتحمل بعض »الفوضى« ســعيا لتكريس الحرية، بل إن فوضى الحرية أسهل احتمالا من مفاسد الانفتاح. ولهؤلاء الخائفين أعلــن: كفوا عن الوصاية على الطلاب والجماهير وكفوا عن الوصاية على العقول المفكرة والأذهان المبدعة، ودعــوا كل الزهور تتفتح. إن النور لا يضر العيون الســليمة، بل يصيب ضعاف البصر والبصــيرة بالعمى الكلي، هؤلاء هم أعداء النور والحرية والأوصياء على العقول والأبدان.

 ?? ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia