Al-Watan (Saudi)

المَرضى بالإحنِ والضغائن

-

أبــا حيّــان قــد دعــا إلى الاسترســا­ل إلى المــوت بــلا جَــزَع، وحــثّ عــلى »الاســتهان­ة بالمــوت« (البصائــر والذخائــر، تحقيــق: أحمــد أمــين، دار آفــاق، القاهــرة، ط1، 2020، ص109،( وبعـد سـتّة قـرونٍ يزعـم مونتـين أنّ التفلْسُـف هـو تـدرُّبٌ عـلى المـوت. وممّـا سـبق ينشـأ أنّ التوحيــدي كان يتفلســفُ، ســواء أدرك ذلــك أم لــم يفعــل، ليُتحِــفَ القــارئ بالعبــارا­ت الفلســفيّة الخلّاقــة، والمُدهشــة. وأرى أنّ مــا قدّمــه التوحيــدي اتّســم بالمعنــى القويــم، واتَّصـف باللّفـظ المسـجوع، وانفـردَ بالعُمـق الفلسـفيّ والعـرض الحصيـف للأفـكار النـيِّرة والفتّانـة، وتوفَّـق في الجمْـعِ بـين حُسـن الشّـعر ومَلاحـة النّثـر، وذلاقـة اللّسـان الـذي يقطـرُ جزالـةً وحـلاوةً تُلقيـان بالقـارئ في دواليـب الزّهـو. ولتبيـان فـرادة التوحيـدي نقـرأ لـه في »مثالـب الوزيرَيْـن«: »إذا أبـصرتِ العـينُ الشّـهوة عَمِـيَ القلـبُ عـن الاختيـار. مَـن رأى المـوتَ بعَــيْن أمََلِــهِ رآه بعيــدًا، ومــن رآه بعَــيْن عقلــه رآه قريبًــا. العقــلُ صفــاء النّفــسِ، والجهــلُ كدَرُهـا. (...) وإنّ اللـه تعـالى أضـاف إلى كلّ مخلـوقٍ ضـدّه ليـدلّ عـلى أنّ الوحـدة لـه وحـدهُ« (تحقيــق: إبراهيــم الكيلانــي، دار الفكــر، دمشــق، ط1، 1961، ص256.( كان التوحيـديُّ سـبّاقًا إلى انتقـاء الحكايـات الظريفـة والنـوادر الطريفـة والشـيّقة التـي عرفهـا العـرب القدامـى، وتوارثوهـا، ليرويهـا بمهـارةٍ حاذقـة في قالـبٍ نثـريّ وبأسـلوبٍ مرسـلٍ فاتـنٍ؛ مـا جَعَـلَ كُتبَـهُ متأرجحـةً بـين المتعـة؛ حيـث إنّـه اختـار حكايـات مسـلّية يجـد فيهـا المغلـوب مُتعتَـه، والمكـروب راحتَـه وكأنّـه يُطبِّـق حرفيٍّـا مـا ذكـره القيروانـي في »زهـر الألبـاب وثمـر الألبـاب«: »القلـوب تمـلُّ كمـا تمـلُّ الأبـدان فاطلبـوا لهـا طرائـفَ الحِكمـة«. )شرحـه: محمّـد البجــاوي، ط1، 1953، ص160). وحينــةً أخــرى مــا يفتــأ يذكــر مــآسي العابريــن في الحيــاة التــي تُدمــي القلــب وتُغــرقُ النَّفــسَ في عوالــم التّعاســة والجــزع، بيــد أنّ تراجيديّتهــا فيهــا فائـدة للإنسـان الـذي بإمكانـه أن يسـتغلّها إيجابيٍّـا وينهـل منهـا الحِكـم والعِـبر الثاويـة فيهـا لتــلافي الوقــوع في الهفــوات نفســها، وقــد تُمتِّعُــهُ أيضًــا بطُــرقٍ ناجعــة لمُواربــة بــلاوي الدّهــر العسـيرة. كمــا أنّ التوحيــدي كان كريمًــا مــع قرّائــه وكانــت العبــارات الوعظيّــة المنضويــة عــلى الكثــير مــن النُّصــح تحتــلّ جــزءًا كبــيرًا مــن كُتبــه، ولا يــكاد المتلقّــي يقــرأ صفحــة أو صفحتــيْن مـن دون أن يجـد نصيحـةً سَـنِيّة ستُسـعفه أمـام مطبّـات العَيـش. نقـرأ لـه في هـذا الصـدد: »وحُــبّ الجــاه، وحُــبّ الرئاســة، وحــبُّ المــال، مهالــكُ الخلــق أجمعــين« )التوحيــدي، الصداقــة والصديـق)، ونقـرأ أيضًـا: »مـن قَـدِرَ أن يُحـرَّر مـن أربـع خصـالٍ لـم يكُـن في تدبـيره خَلَـلٌ: الحـرص، والعُجـب، واتِّبـاع الهـوى، والتَّوانـي« )البصائـر والذخائـر، ص265). ومجمـلُ القـول: إنّ مــا ذكــره التوحيــدي في هــذه العبــارة المُقتضَبــة، والذكيّــة، والعميقــة، يختــزلُ الكثــير مــن الملاحِـم والحـروب التـي قامـت عـلى السّـلطة، ويُبـيّن مـدى خبْـث الإنسـان في نصـب الدسـائس والكمائــن لأخيــه الإنســان قصــد الظّفــر بأشــياءٍ زائلــة. ومــن ثمّــة فــإنّ داء الهــلاك يــشرعُ في نخْــرِ المــرء مُــذ بــدأ دبيــب الهــوى يمــور في داخلــه، وصــدره يفــور مــن مكايــد الشّــيطان ووساوســه. نجـح التوحيـدي، في تقديـري، في التوغُّـل في النَّفـس البشريّـة، حينمـا حـذّر الإنسـان مـن مصيـدةِ الهـوى، وأكّـد أنّ العقـل إذا كان راقـدًا والهـوى مُسـتيقظًا فلينتظـر الانغمـار في دوّامـة المثالـب، وســيصيرُ حينهــا معيبــةً ومعــرّة، يُعاقــرُ الوحــدة، بعدمــا صــارتِ الألســن تتغنّــى بــه شــفقةً وإذلالاً. ولعـلّ المُدهـش أنّ التوحيـدي حـذَّر مـن رقـاد العقـل، وليـس نومـه، ولعَمـري إنّ هـذه قرينـة دامغـة عـلى أنّـه لوذعـيٌّ كبـير. معلـومٌ أنّ مُقـدّم النـوم يسـمّى نعاسًـا، والنـوم المتقطّـع هجوعًــا، والنــوم الطويــل يُطلَــق عليــه: رقــادًا. وأكّــد، في هــذا المضمــار أيضًــا، في »البصائــر والذخائــر« أنّ »العقــل وزيــرٌ ناصِــح، والهــوى كيــلٌ فاضــح«. وربمــا تنِــمُّ هــذه العبــارة عــن عُمـق نظرتـه للنّفـس البشريّـة، وإدراكـه لخبايـا التجربـة الإنسـانيّة، وذلـك يظهـرُ جليّـاً حينمـا وصــفَ الحُسّــادَ بأنّهــم »مناشــيرٌ لأنفســهم« )البصائــر والذخائــر، ص135). أعتقــد اعتقــادًا جــادٍّا أنّ التوحيــدي كان مُحِقٍّــا في هــذا الوصــف بحُســبان أنّ المَــرضى بالإحــنِ والضغائــن يغرقــون في دوّامــة المُعانــاة، وملامِحُهــم مــا ينفــكّ الوجــومُ يســتشري فيهــا، حيــث إنّ مــا في القلـب ينعكـس عـلى الوجـه، الـذي هـو بمثابـة ناقـلٍ لـكلّ مـا هـو جوّانـيّ.

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia