Al-Watan (Saudi)

لم أحرق أبوحيان كتبه؟ َّ تقريظُ الفيلسوف الشقيّ

- سفيان البراق لهذا السبب أحَرقَ كُتُبَهُ *باحث في الفلسفة من المغرب * ينشر بالتزامن مع دورية أفق الإلكتروني­ة.

اختيـار عنـوان هـذه المقالـة مُسـتلهمٌ مـن كتـابٍ فريـد سَـبَكَهُ أبـو حيّـان التوحيـدي مادِحًـا بِر أكـبرناثـرٍ بٍٍ عربـيّ كلاسـيكيّ لدينـا؛ وأعنـي: صاحـب »البيـان والتبيـين«، الجاحـظ. وقـد كنّـاه التوحيـديّ بــ »تقريـظ الجاحـظ«. ويُعَـدّ هـذا الأخـير ممَّـن أوَلـوا العنايـة الفائقـة للّغـة العربيّـة، وتبذّخـوا في الكتابـة بهـا، وبرعـوا أيضـاأيضًـا فيفي القفـز عـلى حبالهـا برشـاقةٍ عـزّ نظيرهـا، حتّـى صـارت اللّغـة في يـده مجـرّد لعبـةٍ يفعـلُ بهـا مـا تمنيه تُمنّيه نفسـه، وتنسـلوتَنسـلُّ مـن بـين أناملهـا بتدفُّـقٍ كبـير. وتجـدر الإشـارة إلى أنّ هـذا الكتـاب الـذي احتفـى فيـه التوحيـدي بالجاحـظ قـد سـقطَ وضـاع، ولـم يتبـقَّ منـه إلّا النّـزر القليـل مـن النصـوص التـي ذكرهـا ياقـوت الحمـوي في كتابـه المؤسِّـس: »مُعجـم الأدبـاء«. كمـا نجـح الباحـث إبراهيـم صـبري راشـد في جمْـعِ بعـض النصـوص مـن هـذا الكتـاب وعمـلَ عـلى تحقيقهـا وتحليلهـا (يُنظـر: الجاحـظ في مـرآة أبـي حيّـان، كتـاب مجلّـة »العربيّـة«، ع179.(

مــشى التوحيــدي عــلى الــدرب نفســه، و»سَــلك مَســلك الجاحــظ في تصانيفــه« كمــا قــال ياقــوت الحمــوي. وهـو الـذي (أي التوحيـدي) أثَـرى المكتبـةَ العربيّـة بكُتـبٍ ذاعَ صيتهـا، ومـا تركـت مكانًـا في الرقعـة العربيّـة إلّا واســتوطنت­ه، نظــرًا للثــراء والتنــوُّع المعــرفي الــذي دمغهــا، والعبــارة العذبــة التــي ميّزتهــا بعدمــا غــاصَ فيهــا التوحيـدي ومتـح منهـا، ونظـرًا أيضًـا للأفـكار المُلفتـة والمفاجئـة التـي عـبّر عنهـا صاحـب »البصائـر والذخائـر« بجـرأةٍ وحصافـة كبيرتَـيْن. ولعـلّ أبـرز فكـرة تسـلبُ القـارئ عقلَـه وتسـتميلُ ألبابَـه هـي تلـك التـي اسـتفاضَ في الحديــث عنهــا في كتابــه العاصــف الــذي ألّفــه بمعيّــة ابــن مســكويه والمكنّــى بــ: »الهوامــل والشـوامل«؛ وأقصـد: الاسترسـال إلى المـوت. ولعمـري إنّهـا فكـرة مدهشـة، وصاعقـة، لكونـه عـبّر عنهـا في زمـنٍ كان الحديـث في الغيبيّـات مـن المحظـورات (عـاش في القـرن الرّابـع الهجــري). لعــلّ مــا يرمــي إليــه فيلســوف الأدبــاء هــو أنّ المــوت قــدرٌ حتمــيٌّ، لا أبَـقَ عنـه، فلـمَ المـرء يتوجّـس منـه، خاصّـةً أنّ الألـم يكـون قَبـل المـوت لا بعده، كمـا أنّ المـوتَ هـو الخـلاص النهائـي مـن تصاريـف الأحـوال العصيبـة التـي تُنهـك الإنسـان، وقـد تجعلـهُ غارقـا في بركـة الأسى والقلـق. ومـن ثَـمَّ فـإنّ ياقــوت الحمــوي كان مُحقٍّــا في وصــف التوحيــدي بأنّــه »كان متفنِّنًــا في جميــع العلــوم مــن النحــو واللّغــة والشــعر والأدب، (...)، وكان جاحظيٍّـا يسـلك في تصانيفـه مسـلكه ويشـتهي أن ينتظـم في سـلكه، فهــو شــيخٌ في الصّوفيّــة، وفيلســوف الأدبــاء، وأديــب الفلاســفة، (...)، وإمـامُ البلغـاء« )معجـم الأدبـاء، تحقيـق: إحسـان عبّـاس، دار الغــرب الإســلامي، بــيروت، ط1، 1993، ص1924). بعــد قــرونٍ مــن توديــع أديــب الفلاســفة، كَتَــبَ فيلســوفٌ فرنــسيٌّ متطـيّر الشـهرةِ قولـةً أنيقـة أراهـا امتـدادًا حقيقيٍّـا لِمـا سـال عنــه مــداد التوحيــدي. يقــول ميشــيل دي مونتــين أحــد أعــلام النّهضــة الأوروبيّــة البارزيــن: »التفلْسُــف هــو تعلُّــمُ المــوت« (يُنظــر: يوســف هريمــة، 2021.( ولعــلَّ مــا يَجعــل النَّفــسَ تفــور، والقلــبَ يُنشــطرُ، هــي تلــك التراجيديـ­ـا الكبــيرة التــي عاشــها التوحيــدي في حياتـه، ولـم يَنَـل، بالرّغـم مـن إنتاجـه الغزيـر والنَّوعـي في الأدب والفلسـفة، الاهتمـامَ المَرجـوّ، ولـم يحـظَ بالمَنزلـة التـي تليـق بـه، سـواءٌ مـن سُـدّة الحُكـم التـي عاصَرهـا، أم مــن طَــرف أفنــاء البــشر. ويتجــلّى ذلــك الضَّنــك في أنّــه عــاش فراغًــا عاطفيٍّــا كبــيرًا لــم تمــلأه أيّــة امــرأة، ولـم يَعـرف أنيسًـا يُخفِّـف عنـه وعـورةَ الزمـن، ويلطِّـف مشــاعره كلّمــا اســتولى عليــه التــبرُّم مــن الحيــاة. لــذا كان جــلّ الوقــت مُنعــزلًا، مُنكبٍّــا عــلى التحصيــل والتأليـف، مُحـاولًا بذلـك مُـداواة قلبـه المخـروم بالخَيبـات والانكسـار­ات المتواليـة. وبالتـالي فقـد شـكَّلت حياتُـه مادّةً دســمة لــكلّ مَــن يــودّ أن يؤلِّــف عــن شــخصيّة أدبيّــة فريــدة عاشــت حيــاةً بئيســة لا معنــى فيهــا لانــشراح الأســارير. وهــذا الشــقاء الــذي لحِــق التوحيــدي، أو كمــا ســمّاه محمّــد الشــيخ بــ »الشــخصيّة القلِقــة في الــتراث العربــي الإســلامي«، جَعلــه يمضــغ الحــسرة، ويســتأثرُ بــه التأفُّــف والاســتيا­ء مــن الحيــاة لذلــك »حَــرَقَ كتبــه، وبعضهـا غسـلها بالمـاء« معـبِّرًا بفعلتـه تلـك عـن ترحـه الحـادّ. وتزكيـةً لهـذا الزَّعـم نقـرأ في هـذا السـياق: »النّـار التــي نَشــبت مــا أضُرمــت بفعــلِ فاعــلٍ، وإنّمــا كانــت مــن عمــل صاحــب البيــت نفســه، رغبــةً منــه في إحــراق كُتـبٍ كان قـد كَتبهـا، وذلـك باعتبـار مـا زعمـه مـن قلّـة جدواهــا، وضنّــاً بهــا عــلى مَــن لا يعــرفُ قدرهــا بعــد موتــه« )محمّــد الشــيخ، مــع التوحيــدي في شــقوته، ط1، 2012، ص7). عـلى الرّغـم مـن أنّ التوحيـدي يُصنَّـف مـن ضمـن أسـياد النثـر في الـتراث العربـي الإسـلامي، وحظـيَ مُنجــزُهُ الأدبــي والفلســفي، بعدمــا انتــصر عليــه هــادمُ اللّـذّات في أواخـر القـرن الرّابـع الهجـري، بالاهتمـام الـذي يليــقُ بــه: تحقيقــاً ودراســةً، لكــنّ هــذا لا يمنــع مــن إلقــاء نظــرة عــن »منحــوس الحــظّ في زمانــه« )محمّــد الشـيخ، ص11)، لمعرفـة الأسـباب التـي كانـت وراء ذلـك الإهمـال الجلـف، والـذي كان مـن تبعاتـه شـظف العيـش والبـؤس. فقـد كان يقـضي جـلّ الوقـت مصاحبـاً للعزلـة الاضْطراريّـة لا المُختـارة، يَرتـدي ملابسًـا باليـة لا تليـقُ بـ »إمــام البُلغــاء« وشــيخ النّاثريــن، يُعايِــن قســوةَ الزمــن التــي عانقتــه طيلــة حياتــه، بــل الأنكــى أنّهــا لازمتــه حتّـى في مسـاء عُمـره. وهـذه الرحلـة الشـاقّة، والمُضنيـة، التـي عاشـها صاحـب »المُقابسـات«، جَعلـت باحثـين عـدّة يصفونــه بأنّــه أكثــر »مفكّــر عربــيٍّ قســا عليــه الزَّمــن« (محمّــد الشــيخ، ص11). لــذا فــلا غرابــة أن يُصــادف القــارئ تكــرارَ شــكوى التوحيــدي لقســوة الزّمــن في مجمـل كُتبـه. وتأكيـداً لذلـك نَجـد في هـذا النّـص شـكوى صريحــة مــن تكالُــبِ بوائــق الزمــان: »ولكــن مــا أضرّ بـي مـا أراه فسـاد الزمـان، واضْطـراب الوقـت، وانتـكاث مرائــر الدّيــن (...) واللــه لقــد أصبحــتُ ومــا لي صديــقٌ أتنفّــسُ معــه، ولا عــدوٌّ أنافســهُ، ولا غنــىً أســتمتعُ بــه، ولا حــالٌ أغبــط بهــا، ولا مرتبــةٌ أحُســد عليهــا« )يُنظــر: مـع أبـي حيّـان التوحيـدي في شـقوته، ص11، مـع بعـض التــصرّف). ويُمكــن أن يلحــظَ القــارئ، في جــلّ مــا كَتــب التوحيــدي، تقريعَــهُ المُبالَــغ فيــه لــكلّ مَــن فَعَــلَ ســوءًا في حقّــه، حتّــى وَصَفَــهُ ياقــوت الحمــوي بــأنّ »الــذمَّ شـأنهُ والثلَـبَ دكّانـه« )معجـم الأدبـاء، ص1924)، وذلـك يتبــدّى بجــلاءٍ كبــير في السّــعاية القويّــة للصاحــب بــن عبّـاد وابـن العميـد في »مثالـب الوزيرَيْـن« حينمـا وصـف أحدهمــا مُظْهِــرًا مقابحــه قائــلًا: »يحســد كلّ مــن كتــب فأحســن الخــطّ، وأجــاد اللّفــظ، وتأتّــى للرســم، وملَّــح في الاسـتعارة، وكان إذا سـمع مـن إنسـانٍ كلامًـا منظومًـا، ومعنـىً قويمًـا، ولفظًـا مسـجوعًا، ونَثـرًا مطبوعًـا، وبيانًـا بليغًــا، وعَرضًــا حكيمًــا، انتقــص طباعــه، وذهــب عليــه أمــره، وتبــدّد حلمــه، وزال عنــه تماســكه، والتهــب كأنّــه نــار« )مثالــب الوزيرَيْــن ص83-82.( صفــوة القــول: ينشــأ ممّــا ســبق أنّ صعوبــة الحيــاة وعسرهــا، ومشــاقّ الزمــن، قدّمــا للقــارئ العربــي ناثِــرًا فـذٍّا، امتلـكَ مقاليـد اللّغـة العربيّـة، واعتنـى بتضاريسـها، ليُتحــفَ المكتبــة العربيّــة بكُتــبٍ تســتحقّ النّظــر وقمينــةٌ بوافــر الاهتمــام، ويُمتِــع القــارئ بنــوادره وحِكمــه وطرائفــه التــي قــد لا تنقــضي عــدٍّا، ومــن ثــمّ لا غــرو بــأنْ يصــل ذلــك بالقــارئ إلى الاســتمتا­ع بشــقائه؛ إذ إنّ شــقاءهُ يعنــي انســيابيّة روعــة العبــارة، وتدفُّــق الإبــداع الأدبـي والفلسـفي الخـلّاب، وتلطيـف حاسّـة المنهـوم بمـا أنتــج، والســفر بالعقــل إلى عوالــم تُجــافي الواقــع. إنّ أبــا حيّــانٍ التوحيــدي هــو لحظــةٌ فارقــة في الــتراث العربــي الإســلامي، لأنّــه اســتطاع أن يَجمــع مــا لا يُجمــع في يــدٍ واحــدة (الأدب والفلســفة)، وانفــرد بخــواصٍّ تفرّقــت في غـيره، والأغـرب هـو أنّـه بالرغـم مـن الشّـقاء الـذي ألِـف التوحيــدي واســتأنس بــه، فإنّــه ظــلّ متشــبّثاً بالأمــل في الحيـاة عـبر الكتابـة والتأليـف، وربّمـا هـي التـي كانـت تــروِّح عــن نَفْســه المكــدودة والمُثقلــة بالهمــوم والأعبــاء ليســتمرَّ في الإنتــاج المُغــري والمُلهِــم. وقــد يخــالُ إلى القـارئ أنّ أبـرع مـن روَّض الشـقاء هـو التوحيـدي، لأنّـه عـرِفَ كيـف يُجـاري كلّ ذلـك الثّقـل، مُسـتمرٍّا في خَـوْضِ غمــار الحيــاة والكتابــة حتّــى جــاوَز الثمانــين. وإجمــالًا فــإنّ التوحيــدي نمــوذجٌ بــارِزٌ للصــبر والجَلَــد وتحمُّــل ضحالــة العالَـم، ونمــوذجٌ جــليّ لــكلّ مَــن يتّخــذ الكتابــةَ شــكلًا مــن أشــكال مُقاوَمــةِ مِحَــن الحيــاة.

 ?? ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia