اﻟﻔﺘﺎوى اﻟﻐﺮﻳﺒﺔ وﺣﻜﻤﺘﻬﺎ اﻟﺨﻔﻴﺔ
ﻓـﻲ أﻏﺴﻄﺲ )آب( ٨٠٠٢، ﻧﺸﺮت ﺻــﺤــﻴــﻔــﺔ »اﻟــــﻮﻃــــﻦ« ﺗـــﻘـــﺮﻳـــﺮا ﻟـﻠـﺰﻣـﻴـﻞ ﻋــﻀــﻮان اﻷﺣــﻤــﺮي، اﺳـﺘـﻌـﺮض أﻏــﺮب اﻟﻔﺘﺎوى ﺧﻼل اﻟﻌﺎم. وﺗﻨﺸﺮ اﻟﺼﺤﺎﻓﺔ ﺗﻘﺎرﻳﺮ ﻣﺜﻞ ﻫﺬا ﺑﲔ ﺣﲔ وآﺧﺮ.
اﺳﺘﻐﺮاب ﺗﻠﻚ اﻟﻔﺘﺎوى ﻻ ﻳﺘﻌﻠﻖ ﺑـﺼـﺤـﺔ أو ﺧـﻄـﺄ أدﻟــﺘــﻬــﺎ. ﻓـﻠـﻴـﺲ ﻫـﺬا ﻣـﺎ ﻳﻬﻢ ﻋـﺎﻣـﺔ اﻟــﻨــﺎس. ﻣـﻮﺿـﻊ اﻹﺛــﺎرة واﻻﺳـــﺘـــﻐـــﺮاب ﻫـــﻮ ﺗــﻄــﺒــﻴــﻖ ﻣـﻀـﻤـﻮن اﻟــــﻔــــﺘــــﻮى. وأذﻛـــــــــﺮ أن وزﻳـــــــﺮ اﻹﻋــــــﻼم اﻟﺴﺎﺑﻖ د. ﻣﺤﻤﺪ ﻋﺒﺪه ﻳﻤﺎﻧﻲ، ﻋﺮض ﻋﻠﻲ ﻳﻮﻣﴼ ﻛﺘﺎﺑﴼ ﻋﻦ اﻟﺤﺪﻳﺚ اﳌﻌﺮوف ﺑـﺤـﺪﻳـﺚ اﻟــﺬﺑــﺎﺑــﺔ. ووﺟــــﺪت أن ﻛﺎﺗﺒﻪ ﻗــﺪ ﺑــﺬل ﺟــﻬــﺪا ﻓـﺎﺋـﻘـﺎ ﻓــﻲ اﻟﺘﺤﻘﻖ ﻣﻦ اﻟﺮواﻳﺎت اﻟﺘﻲ ﺗﺴﻨﺪ اﻟﺤﺪﻳﺚ اﳌﺬﻛﻮر. ﻟﻜﻦ اﳌﺮﺣﻮم ﻳﻤﺎﻧﻲ ﻟﻢ ﻳﻨﺲ اﻹﺷـﺎرة إﻟــــﻰ أن اﳌــﺸــﻜــﻠــﺔ ﻻ ﺗــﻜــﻤــﻦ ﻓـــﻲ ﺻﺤﺔ اﻻﺳﺘﺪﻻل، ﺑﻞ ﻓﻲ ﻛﻮن ﻣﺆدي اﻟﺤﺪﻳﺚ ﻣـﻤـﺎ ﻳـﺠـﺎﻓـﻲ اﻟــــﺬوق اﻟــﻌــﺎم. وﻟـــﺬا ﻳﻘﻊ ﻣﻮﻗﻊ اﻟﺴﺨﺮﻳﺔ.
أﻋـــﻠـــﻢ أﻳــــﻀــــﺎ أن ﺑــﻌــﺾ اﻟــﻔــﻘــﻬــﺎء اﳌــــﻌــــﺎﺻــــﺮﻳــــﻦ ﻳـــﺨـــﺘـــﺎر اﻟــــﺴــــﻜــــﻮت ﻋــﻦ ﻓﺘﺎوى ﻛﺎﻧﺖ ﻣﺤﻞ إﺟﻤﺎع ﻓﻲ اﳌﺎﺿﻲ، ﻷن اﻟــﺠــﻤــﻬــﻮر ﻣــﺎ ﻋـــﺎد ﻳـﻘـﺒـﻠـﻬـﺎ. وﻣــﻦ ﺑﻴﻨﻬﺎ ﻣﺜﻼ ﻓﺘﺎوى ﺗﺤﺮﻳﻢ اﻟﺘﺼﻮﻳﺮ، واﻟــــﺪراﺳــــﺔ ﻓــﻲ اﻟـــﺨـــﺎرج، واﻟــﻌــﻤــﻞ ﻓﻲ اﻟـــﺒـــﻨـــﻮك واﻗـــﺘـــﻨـــﺎء اﻷﺳــــﻬــــﻢ، واﻟــﺴــﻔــﺮ إﻟــﻰ اﻟﺒﻠﺪان اﻷﺟﻨﺒﻴﺔ، واﳌـﺘـﺎﺟـﺮة ﻓﻲ اﻷﺳـــﻮاق اﳌﺴﺘﻘﺒﻠﻴﺔ، وﺗـﻮﻟـﻲ اﻟﻨﺴﺎء اﻟﻮﻇﺎﺋﻒ اﻟﻘﻴﺎدﻳﺔ... إﻟﺦ.
ﻫـﺬا ﻳﺸﻴﺮ إﻟـﻰ ﺣﻘﻴﻘﺔ أن اﳌﺴﺄﻟﺔ اﻟــﺸــﺮﻋــﻴــﺔ ﻻ ﺗــﻨــﺘــﻬــﻲ ﺑــﻤــﺠــﺮد إﻋـــﻼن اﻟـﻔـﺘـﻮى ﻓـﻴـﻬـﺎ. دﻋـﻨـﺎ ﻧـﻘـﻮل إن ﻋﻤﻠﻴﺔ اﻻﺟـﺘـﻬـﺎد ﺗﺘﺄﻟﻒ ﻓـﻲ اﳌﻨﻬﺞ اﳌــﻮروث ﻣﻦ ٣ ﻣﺮاﺣﻞ؛ ﻫﻲ اﻟﺘﻜﻴﻴﻒ اﳌﻮﺿﻮﻋﻲ ﻟـﻠـﻤـﺴـﺄﻟـﺔ، ﺛــﻢ اﻟـﺒـﺤـﺚ ﻋــﻦ اﻷدﻟــــﺔ ذات اﻟــــﻌــــﻼﻗــــﺔ، وأﺧـــــﻴـــــﺮﴽ اﻧـــﺘـــﺨـــﺎب اﻟــﺤــﻜــﻢ اﳌﻨﺎﺳﺐ.
ﻟﻜﻦ اﻟﺘﺤﻮﻻت اﻷﺧﻴﺮة ﻓﻲ ﺗﻌﺎﻣﻞ اﻟﻨﺎس ﻣﻊ اﻟﺸﺮﻳﻌﺔ وأﻫﻠﻬﺎ، ﺗﺴﺘﺪﻋﻲ إﺿـــﺎﻓـــﺔ ﻣــﺮﺣــﻠــﺔ راﺑـــﻌـــﺔ، ﻫـــﻲ اﺧــﺘــﺒــﺎر اﻻﻧـــﻌـــﻜـــﺎﺳـــﺎت اﳌـــﺘـــﺮﺗـــﺒـــﺔ ﻋـــﻠـــﻰ إﻋــــﻼن اﻟﻔﺘﻮى. واﳌﺮﺟﻊ ﻓﻲ ﻫﺬا اﻻﻗﺘﺮاح أن اﳌﺼﻠﺤﺔ ﺷﺮط ﻓﻲ اﻟﺤﻜﻢ. واﺷﺘﻬﺮ ﺑﲔ اﻟﻌﻠﻤﺎء أن »اﻷﺣﻜﺎم ﺗﺪور ﻣﻊ اﳌﺼﺎﻟﺢ وﺟﻮدﴽ وﻋﺪﻣﴼ«. وﻣﻌﻨﻰ ﻫﺬا اﻟﻘﻮل إن ﻓﺘﻮى اﻟﻔﻘﻴﻪ ﺗﺴﻘﻂ ﻣﻦ اﻻﻋﺘﺒﺎر، إذا ﺗﺮﺗﺐ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﺗﻀﻴﻴﻊ ﻣﺼﻠﺤﺔ ﻋﻘﻼﺋﻴﺔ، أو ﺗﺴﺒﺒﺖ ﻓﻲ ﻓﺴﺎد.
وﻣﻦ أﺟﻠﻰ وﺟﻮه اﻟﻔﺴﺎد اﻟﺘﺴﺒﺐ ﻓﻲ إﻋﺮاض اﻟﺠﻤﻬﻮر اﳌﺴﻠﻢ ﻋﻦ أﺣﻜﺎم اﻟﺸﺮﻳﻌﺔ، أو ﺟﻌﻠﻬﺎ ﻣﻮﺿﻌﴼ ﻟﻠﺴﺨﺮﻳﺔ واﻟﺘﻨﺪر ﻣﻦ ﻗﺒﻠﻬﻢ أو ﻣﻦ ﻗﺒﻞ ﻏﻴﺮﻫﻢ. وﻻ ﻳﺨﺘﻠﻒ اﻟﺤﺎل ﺑﲔ أن ﻳﺮﻓﺾ اﻟﺤﻜﻢ ﳌـﺎ ﻳﺘﺴﺒﺐ ﻓﻴﻪ ﻣـﻦ ﻋﺴﺮ ﻋﻠﻰ اﻟﻨﺎس أو ﺣﺮج، ﻛﻤﺎ ﻓﻲ اﻟﻘﻮل ﺑﺤﺮﻣﺔ اﻟﺴﻔﺮ إﻟﻰ اﻟﺒﻼد اﻷﺟﻨﺒﻴﺔ، أو ﻷﻧﻪ ﻓﻲ اﻟﻠﻔﻆ أو اﻟﻔﺤﻮى - ﻣﺨﺎﻟﻒ ﻟﻠﺬوق اﻟﻌﺎم أو ﻃﺒﻴﻌﺔ اﻟﺒﺸﺮ، ﻛﻤﺎ ﻓﻲ اﻟﻨﻬﻲ ﻋﻦ ﻣﺤﺒﺔ اﻟﺰوﺟﺔ ﻏﻴﺮ اﳌﺴﻠﻤﺔ.
ﻻ ﺑـﺪ أن ﺑﻌﺾ اﻟــﻘــﺮاء ﺳـﻴـﺮى ﻓﻲ اﻟﻜﻼم اﻟﺴﺎﺑﻖ ﻣﻌﺎﻟﺠﺔ ﻟﺴﻄﺢ اﳌﺸﻜﻠﺔ. وﻫﺬا رأﻳﻲ أﻳﻀﴼ. ﻟﻜﻦ ﻟﻮ أردﻧﺎ اﻟﺬﻫﺎب درﺟـﺔ واﺣـﺪة ﻓﻲ اﻟﻌﻤﻖ، ﻓﻘﺪ ﻧﺠﺪ أن ﺟﻮﻫﺮ اﳌﺴﺄﻟﺔ ﻟﻴﺲ رد ﻓﻌﻞ اﻟﺠﻤﻬﻮر ﻋﻠﻰ ﻏـﺮاﺑـﺔ اﻟﻔﺘﻮى، ﺑـﻞ ﻓـﻲ أن ﺑﻌﺾ اﻟﻔﺘﺎوى ﺗﻨﺎﻗﺾ ﺣﻜﻢ اﻟﻌﻘﻞ أو ﺗﻬﺪر اﳌﺼﺎﻟﺢ اﻟﺤﺎﻟﻴﺔ ﻟﻠﻨﺎس.
ﻻ ﻳﺘﺴﻊ اﳌﺠﺎل ﻟﻠﺘﻔﺼﻴﻞ ﻓﻲ ﻫﺬا. وزﺑﺪة اﻟﻘﻮل إن اﳌﺸﻜﻞ اﻟﺠﻮﻫﺮي ﻳﻜﻤﻦ ﻓﻲ اﻟﻔﺮﺿﻴﺔ اﻟﻘﺎﺋﻠﺔ إن ﺑﻌﺾ اﻷﺣﻜﺎم اﻟﺸﺮﻋﻴﺔ ﻳﻨﻄﻮي ﻋﻠﻰ ﺣﻜﻢ ﺧﻔﻴﺔ ﻻ ﻳــﺪرﻛــﻬــﺎ اﻟــﻌــﻘــﻞ، وإن ﻋــﻠــﻰ اﳌـــﺆﻣـــﻦ أن ﻳﺄﺧﺬ ﺑﻬﺎ ﺗﻌﺒﺪﴽ وﺗﺴﻠﻴﻤﴼ، ﻷﻧﻬﺎ ﺣﻜﻢ اﻟﻠﻪ، وﻫﻮ اﻷﻋﻠﻢ ﺑﻤﺎ ﻳﺼﻠﺢ ﻋﺒﺎده وﻣﺎ ﻳﺼﻠﺢ ﻟﻬﻢ.
ﻻ ﻳﻮﺟﺪ أي دﻟﻴﻞ ﻣﻌﺘﺒﺮ ﻋﻠﻰ ﺻﺤﺔ اﻹﻟــــﺰام ﺑﺎﻟﻔﺮﺿﻴﺔ اﳌـــﺬﻛـــﻮرة. ﻓﺄﺣﻜﺎم اﻟﺸﺮﻳﻌﺔ، ﻻ ﺳﻴﻤﺎ اﳌﻮﺟﻬﺔ ﻟﻠﻤﺠﺘﻤﻊ ﻛﻨﻈﺎم، ﻏﺮﺿﻬﺎ ﺗﺤﻘﻴﻖ ﻣﺼﺎﻟﺢ ﻗﺎﺑﻠﺔ ﻟﻠﺘﺸﺨﻴﺺ اﻟﻌﺮﻓﻲ، أي أن ﻣﻀﻤﻮﻧﻬﺎ ﻇﺎﻫﺮ ﻟﻌﺎﻣﺔ اﻟﻌﻘﻼء. ﺑﺪﻳﻬﻲ أن وﺿﻮح اﳌﺼﻠﺤﺔ اﻟﻌﻘﻼﺋﻴﺔ، ﻳﺴﺘﺪرج ﺣﻜﻤﻬﺎ، ﳌــﺎ ذﻛـــﺮﻧـــﺎه ﻣــﻦ أن اﻷﺣـــﻜـــﺎم ﺗــــﺪور ﻣﻊ اﳌﺼﺎﻟﺢ ﻧﻔﻴﴼ أو إﺛﺒﺎﺗﴼ. وﻟﻨﺎ ﻋﻮدة إﻟﻰ اﳌﻮﺿﻮع ﻓﻲ وﻗﺖ آﺧﺮ إن ﺷﺎء اﻟﻠﻪ.