تقسيم سوريا بسياسة الأمر الواقع
ما يجري على الساحة السورية وحــولــهــا هـــذه الأيـــــام أحــيــا الــكــلام مـــجـــدداً عـــن مــخــطــطــات الـتـقـسـيـم، خصوصاً فـي ظـل السباق المحموم بين الأطراف المختلفة لاقتطاع مناطق نفوذ استراتيجية، والمخاوف المثارة بـشـأن »مـنـاطـق خـفـض التصعيد« المـقـتـرحـة، والـتـفـاهـمـات الـروسـيـة - التركية - الإيرانية الأخيرة.
صـــحـــيـــح أن الـــــحـــــديـــــث حــــول مـخـاوف التقسيم ظـل يــلازم الأزمـة السورية منذ اللحظة التي تحولت فــيــهــا إلـــــى حـــــرب داخـــلـــيـــة بــأبــعــاد إقليمية ودولية، وصحيح أيضاً أن البلد بدا مقسماً بحكم الأمر الواقع منذ سنوات، وذلك مع تقطيعه إلى مناطق واقعة تحت سيطرة الأطراف المختلفة، لكن أحداث الفترة الأخيرة والــتــحــركــات المــرافــقــة عـلـى الأرض أعــــطــــت الانــــطــــبــــاع بـــــــأن الأطــــــــراف الــدولــيــة والإقـلـيـمـيـة بـــدأت تتحرك فعلياً في اتجاه خطط تقود إما إلى التقسيم، أو إلــى إبـقـاء سـوريـا في حالة من التمزق والاحتراب الداخلي والـــــتـــــجـــــاذب الإقـــلـــيـــمـــي والـــــدولـــــي لسنوات كثيرة مقبلة، أي إلى حالة عراقية أخرى، ولكن بصورة معدلة.
وأكـــثـــر الـــتـــطـــورات الــلافــتــة في الآونة الأخيرة كان السباق المحموم بـين قـــوات الـنـظـام الــســوري وإيـــران وحـلـفـائـهـا مــن جـهـة، وبــين أمـيـركـا وحـلـفـائـهـا مــن فـصـائـل المـعـارضـة الـــــســـــوريـــــة مـــــن الــــجــــهــــة الأخـــــــــرى، لــلــســيــطــرة عــلــى مــنــطــقــة الـــحـــدود الـسـوريـة - الـعـراقـيـة. فـإيـران لديها مــــشــــروع لإيــــجــــاد مـــمـــر يــمــتــد مـن حـدودهـا عبر الـعـراق حتى مناطق الساحل السوري. فهذا الممر يعني أن يكون لها منفذ مفتوح لـــلإمـــدادات مــن إيـــران إلـى سوريا، يمكن أن يستخدم لاحقاً أيضاً كخط إمداد إلى »حزب الله« في لبنان.
وفي هذا الصدد، دعــمــت طـــهـــران بـقـوة مــيــلــيــشــيــا »الــحــشــد الـــشـــعـــبـــي « الـــعـــراقـــي حـــــتـــــى أصــــــبــــــح قـــــوة كبرى في العراق، على غــرار »حــزب الـلـه« في لبنان، وإن كـان يقل عنه كثيراً من ناحية التنظيم والانضباط والخبرة العسكرية والقتالية.
وعـــــلـــــى الـــــجـــــانـــــب الـــــــســـــــوري، اســتــثـمــرت إيـــــران أيــضــاً كــثــيــراً في دعــمــهــا لــنــظــام بــشــار الأســــــد، كـمـا عملت مع »حزب الله« اللبناني على بناء وتدريب قوات في سوريا تكون نــــواة مـسـتـقـبـلاً لمــا يـشـبـه »الـحـشـد الشعبي«، خصوصاً أن كل المؤشرات تدل على أن سوريا ستكون خاضعة مــســتــقــبــلاً لــــتــــوازنــــات بــــين الــقــوى والميليشيات المسلحة المدعومة من أطراف خارجية.
وعندما اندلعت معركة تحرير المـوصـل، فــرض »الـحـشـد الشعبي« لنفسه دوراً فـيـهـا. ومـنـهـا، انطلق أخــيــراً فــي اتــجــاه مـنـطـقـة الــحــدود الــــــســــــوريــــــة، لـــيـــلـــتـــقـــي هـــــنـــــاك مــع قـــــوات الــنــظــام الـــســـوري وحـلـفـائـه مـــن الإيـــرانـــيـــين ومــــن »حـــــزب الــلــه« والمــقــاتــلــين المــحــلــيــين، وكــانــت تلك خـطـوة مهمة فـي إطــار وضــع الممر الإيراني موضع التنفيذ. لكن »اللقاء الرمزي « بين هذه القوات على الحدود الــعــراقــيــة - الـسـوريـة لـم يـمـر مـــرور الـكـرام، فـبـدأت بـعـده سلسلة مـــن الاحــتــكــاكــات مـع المـــعـــارضـــة الــســوريــة المــــــــــــــدعــــــــــــــومــــــــــــــة مـــــن واشنطن، كما قصفت الــــــقــــــوات الأمـــيـــركـــيـــة قوات النظام السوري وحـــــلـــــفـــــائـــــه، بــحــجــة مـنـعـهـم مــن الاقــتــراب من قاعدة التنف التي تـسـتـخـدمـهـا الــقــوات الـخـاصـة الأمـيـركـيـة لـدعـم المقاتلين الموالين، ولمنع تسلل فلول »داعش« من العراق إلى سوريا.
واشنطن تريد أن تمنع بلا شك فتح ممر يربط من إيران إلى العراق وسوريا، واضعة في حساباتها أن إسـرائـيـل تـراقـب الأمــر بقلق أيضاً. وفـــي حــين تـعـمـل أمــيــركــا لمـنـع هـذا الممر، فإن إسرائيل كثفت في الأيام الأخيرة غاراتها على مواقع القوات الـــســـوريـــة قــــرب مــنــاطــق الـــجـــولان، لـتـوجـيـه رســالــة لـدمـشـق بـأنـهـا لن تقبل باقتراب إيـران أو »حزب الله« من هذه المناطق، خصوصاً في ظل المواجهات الدائرة بين قوات النظام السوري والمعارضة في القنيطرة.
الأردن كـذلـك يــراقــب مــا يحدث في منطقة الحدود العراقية، وعلى جـبـهـة درعـــا الـجـنـوبـيـة، خصوصاً مع التقارير عن أن الحرس الثوري الإيــــــرانــــــي بــــــات يــــوجــــد فــــي مــطــار عسكري سوري لا يبعد أكثر من ٧٥ كيلومتراً عن الحدود الأردنية.
ما يحدث على هذه الجبهات لا يمكن فصله عما يحدث على جبهة معركة الرقة، والدعم الأميركي لقوات »سوريا الديمقراطية،« التي يشكل الأكــراد عمادها، لكنها تضم أيضاً مجموعات عربية. فتركيا عبرت عن قلقها الشديد من تسليح الأميركيين لأكراد سوريا، ولوحت بأنها مثلما تدخلت في السابق لمنع تمدد الأكراد فـي الـشـمـال الــســوري، خـوفـاً مـن أن يشجع ذلك حلم الفيدرالية الكردية، فإنها قد ترسل قوات مجدداً لمنع أي تـمـدد جـديـد لـقـوات حماية الشعب الكردية، المنضوية تحت لواء قوات سـوريـا الديمقراطية. وبينما اتهم الرئيس التركي رجب طيب إردوغان حــــلــــفــــاءه الــــغــــربــــيــــين، خــصــوصــاً الــــــــولايــــــــات المـــــتـــــحـــــدة، بـــمـــمـــارســـة الألاعــيــب، فــإن حكومته قـالـت إنها تلقت تأكيدات من واشنطن بسحب الأسـلـحـة المـتـطـورة مـن الأكـــراد بعد معركة الرقة.
لــكــن وزيــــــر الــــدفــــاع الأمــيــركــي جـيـم مـاتـيـس صــبّ مـــاءً بـــارداً على هذه التأكيدات التركية قبل يومين، ملمحاً إلـى أن واشنطن قـد تستمر في تسليح »وحدات حماية الشعب« الكردية السورية حتى بعد استعادة الـرقـة مـن »داعـــش«، وكــان رده على أســئــلــة الــصــحــافــيـين: »دعـــونـــا نــرَ، فالمسألة ليست وكأن القتال سينتهي بعد استعادة الرقة.«
الـــرســـالـــة مـــن كـــل الأطــــــــراف أن سوريا لا تـزال بعيدة كل البعد عن »خــفــض الــتــصــعــيــد«، بـــل إنــهــا قـد تكون متجهة نحو مرحلة أخرى من التصعيد والصراع لاقتطاع مناطق نـفـوذ، أو توسيع أخــرى بما يعني عملياً خطوة أخرى نحو التقسيم... بسياسة الأمر الواقع.