ترصد رحلة تفكيك مفخخات بنغازي
هذه واحدة من أخطر العمليات التي يقوم بها الجيش الوطني الليبي، رغم ضعف إمكاناته، وهي تفكيك ألوف المفخخات التي تركتها التنظيمات المتطرفة في المواقع التي مرت عليها في ضواحي مدينة بنغازي... مفخخات في العمارات... وفي الشوارع... وفي الحدائق العامة... في نـوادي
مثلما كـان يفعل رجـال جرد مــــخــــازن الـــســـلـــع قـــديـــمـــاً، جـلـس ضـــــابـــــط مــــــن رجــــــــــال الـــهـــنـــدســـة العسكرية وسط جنوده، لكن لكي يحصي عـدد القنابل التي جرى استخراجها من شـوارع ومباني ضــــاحــــيــــة الـــــصـــــابـــــري فــــــي هــــذا النهار... ورفع يده محذراً: »لا... لا أحد يقترب. لا تتسببوا لنا في كـارثـة،« كانت بعض الـدانـات ما زالـت مـزودة بفتيل التفجير، في انتظار إبطال مفعولها.
ولــعــبــتْ مــفــخــخــات زرعــهــا المتطرفون، وهم يتراجعون إلى الـخـلـف، دوراً كـبـيـراً فــي عـرقـلـة تـــقـــدم الـــجـــيـــش... وفـــــي تـأخـيـر استعادة ميناء بنغازي البحري والــحــظــيــرة الــجــمــركــيــة وكـثـيـر من المباني والمؤسسات العامة. وتكشف آثـار »الـدواعـش« الذين مــروا مـن هنا أن أشـهـر نــوع من التفجيرات التي قاموا بدراستها واستخدامها على نطاق واسع، هو ما يعرف باسم »المسطرة«... وهــي تـشـبـه مـسـطـرة بـالـفـعـل... تُزرع بشكل خفي في مكان يتوقع أن يستخدمه أي فرد في المنزل أو في الشارع أو في أي موقع عام.
وإذا ضـــغـــطـــت عــــلــــى هــــذه المسطرة بقدمك أو اتكأت عليها أو عبثت بـالمـوقـع المــزروعــة فيه، تـقـوم بتوصيل دائـــرة كهربائية إلــى الــدانــة الـتـي تـكـون مطمورة في مكان يبعد ما بين ٣ و٥ أمتار.
وأخـــــــــــــذ الــــــضــــــابــــــط يــــشــــرح حصيلة ما تم استخراجه اليوم مـن مساطر مربوطة بـدانـات من أوزان مـخـتـلـفـة، بـعـضـهـا لـديـه الـــقـــدرة عــلــى نــســف عـــمـــارة مــرة واحـــــدة. وقـــال إن »المــســطــرة هي وصـلـة الـربـط لتفجير الــدانــة أو القنبلة. توجد ألوان وتصميمات مـخـتـلـفـة لـلـمـسـاطـر، مـثـل الـلـون الأخضر حين تـزرع في النجيلة، أو اللون البني للجدار البني، أو بلون التراب حين تزرع في التراب، أو باللون الأسـود حين تـزرع في الشارع .«
وأضــــــاف: »زرع المـتـطـرفـون مفخخات حتى في دورات المياه. يتطلب الأمـــر لـحـل هــذه المشكلة الـــوصـــول إلـــى المــســطــرة، ولـيـس إلـى القنبلة أو الـدانـة أو العبوة أياً كانت... بعد التأكد من وجود قنبلة في المكان، تبدأ مهمة معقدة للبحث عن المسطرة، أو العكس.« ويتابع وهو يشرح أسرع وسيلة لـلـمـوت والـــدمـــار، أن »المـتـطـرفـين اســـــتـــــخـــــدمـــــوا طـــــرقـــــاً مــخــتــلــفــة للتفجير، منها أيضاً ربط القنبلة الـيـدويـة بــأي شــيء يـمـكـن شــده، مثل مقبض الباب... بمجرد إدارة المقبض تنفجر القنبلة.«
وفــــي داخــــــل ٣ أوكــــــــار، عـلـى الأقــل، كانت مراكز لــ »الـدواعـش« فــي شــــارع الــبــحــر، تــوجــد بـقـايـا لأوراق ورسومات عن طرق تركيب القنابل بعضها مأخوذ من مواقع عـلـى الإنــتــرنــت والــبــعــض الآخــر مرسوم باليد. أما مخازن الأسلاك ودانات التفجير التي كان يعدها »الدواعش« للتفخيخ، فموجودة فـي كـل وكـر تقريباً مـن تلك التي تمكن الجيش من دخولها. أسلاك حمراء وأخـرى سـوداء وخضراء. ونــــــــوابــــــــض وهــــــــواتــــــــف جــــوالــــة ومساطر، وغيرها.
وبـعـد شــرب الـشـاي وتـبـادل أطـــــــــراف الـــحـــديـــث والــــذكــــريــــات ُالـقـريـبـة عــن الـضـبـاط والـجـنـود الذين قتلوا وهم يحاولون تفكيك المـفـخـخـات فـي الأشـهـر الأخـيـرة، بــدأ اسـتـئـنـاف الـعـمـل مـن جـديـد، في منطقة »مشروع الصفصفة،« بحثاً عن قنابل ومتفجرات أخرى على جانبي الطريق وفي مداخل البيوت.
كــــــــــــان الـــــــــــشـــــــــــارع طــــــويــــــلاً ومــــــهــــــجــــــوراً وتــــصــــطــــف عــلــى جانبيه مئات العمارات المثقوبة بالقذائف. وصـاح أحد الجنود مـن أمــام مدخل مبنى محترق. وهـذا يعني أنـه عثر على شيء مــا. إنـهـا مـسـطـرة مــزروعــة في عتبة الـدخـول. ذات لـون طوبي يشبه ركام الحجارة التي كانت فوقها.
وفــي الــحــال تـقـدم الـضـابـط، مـــهـــنـــدس تــفــكــيــك المـــفـــخـــخـــات. وشـرع يتتبع بأصابعه الأسـلاك الــتــي تــربــط المــســطــرة بـالـقـنـبـلـة. ومن ورائه يقف ٣ من مساعديه. واحتمال أن تقع كـارثـة وتنفجر الــعــمــارة عـلـى الـجـمـيـع احـتـمـال قائم. لكن لا بد من الاستمرار في العمل. وأخذ المهندس يحفر حول المسطرة بيديه العاريتين... ثم بدأ يحفر مع الأسلاك التي ستصل به إلى موضع الدانة.
ويعمل مثل هؤلاء المهندسين بـــشـــكـــل بــــــدائــــــي لـــلـــعـــثـــور عــلــى المتفجرات بسبب نقص المعدات الـلازمـة لـذلـك، حيث تعد وسائل الكشف عن الألغام والمتفجرات من المحرمات المفروضة من المجتمع الدولي ضمن الحظر على تسليح الـجـيـش الـلـيـبـي المــقــرر مــن الأمــم المتحدة منذ عام ٢٠١١.
وكـــــــــان يــــوجــــد فـــــي مــنــطــقــة »الــــــصــــــابــــــري« وفـــــــي »مــــشــــروع الـــصـــفـــصـــفـــة« ألــــــــــوف الـــقـــنـــابـــل المـزروعـة فـي كـل مـكـان. وفـي آخر الــطــريــق وقــفــت ســيــارة صـغـيـرة ونـــزلـــت مـنـهـا أســـــرة مــكــونــة من رجل يدعى ناجي، وزوجته و٣ من بناته لأخذ الإذن بالدخول لتفقد مـنـزلـهـم. لـكـن الـجـيـش لـم يسمح لهم بذلك.
مــا زال الـخـطـر قــائــمــاً. ومـع ذلك أسند ناجي ذراعه على سقف ســيــارتــه، وأخــــذ يــراقــب المـشـهـد. بينما ترجلت زوجته وبناته حول السيارة كأنهن يستعدن ذكريات الماضي الذي كان ينبض بالحياة هنا. ويقول الرجل الذي كان يدير متجر ملابس تحت بيته في هذا الشارع، قبل أن يجتاح المتطرفون المنطقة، إنه يعيش وأسرته، منذ عام ٢٠١٤، لدى أقارب لهم في نجع جـنـوب مــطــار بـنـغـازي المـعــروف باسم مطار بنينا، وإنه جاء قبل أســبــوع عـلـى أمــل أن يـرمـم بيته ومتجره، إلا أن ضباط الهندسة العسكرية لـم يسمحوا لـه. وفقد الـرجـل ولـديـه أثـنـاء الـحـرب ضد »تنظيم أنـصـار الـشـريـعـة« الـذي يـوصـف أحـيـانـاً بـأنـه أحـــد أذرع »داعش« في بنغازي.
وبــيــنــمــا يــشــاهــد مـــن بـعـيـد مـحـاولـة الـضـابـط الــوصــول إلـى مـــكـــان الــقــنــبــلــة، دوّى انــفــجــار ضـخـم، وغـطـى الـتـراب كـل شـيء، بينما سقطت الكتل الخرسانية فـــي الـــشـــارع فـــي ضـجـيـج أصـــم. وعادت أسرة ناجي من حيث أتت أمــام هــذه الـواقـعـة الـتـي لا تبشر بالخير.
وفــــي الــطــريــق الـخـلـفـيـة مـن »مشروع الصفصفة« كذلك، كان هــنــاك ضــبــاط وجــنــود يـعـمـلـون أيـضـاً عـلـى تتبع أمـاكـن الألـغـام. وســمــع انــفــجــار دانــــة أخــــرى في مبنى مجاور كان تحت الإنشاء... كان أصحاب البيت يطمحون في معاينته لاستكمال بنائه المتوقف مـــنـــذ عـــــامـــــين، رغـــــــم تـــحـــذيـــرات الــجــيــش. وتـسـبـب الانــفــجــار في قتل ٤ أطفال ووالدتهم. وأصبحت جثثهم مجرد قطع صغيرة يمكن أن تـحـمـل كــل قـطـعـة مـنـهـا بكف اليد.
ومــن خــلال زوايــــا الــشــوارع، ظهر أن هناك ٥ أسـر أخـرى على الأقـــل كـانـت تــحــاول الـــعـــودة، إلا أنــهــا قـــادت سـيـاراتـهـا مـبـتـعـدة. ويـقـول مـسـؤول فـي الجيش كان يـرافـق »الـشـرق ُالأوســـط:« معظم المهندسين العسكريين قتلوا وهم يحاولون إبـطـال هـذه المفخخات في مناطق مختلفة في بنغازي... لا تـــوجـــد لــــدى الــجــيــش أجــهــزة لــكــشــف الألــــغــــام والمـــفـــخـــخـــات... سـلـك ومـسـطـرة وطـريـقـة بـدائـيـة وخطيرة جداً. تحتاج إلى تدريب ومعدات خاصة... هؤلاء يعملون بـأيـدٍ عـاريـة وفقدنا نحو ٨٠ في المـائـة مـن الأفـــراد الـذيـن يعملون فـي تفكيك الألــغــام. لكننا دربـنـا مــجــمــوعــات جــــديــــدة وخــرّجــنــا ضباطاً جدداً لاستكمال المهمة«.
ودخـــــــل نـــاشـــطـــون لـيـبـيـون على الـخـط مـن أجـل إنـقـاذ الأسـر من السقوط في غابة المفخخات، مــســتــغــلــين فــــي ذلــــــك تـطـبـيـقـات الهواتف الجوالة، ومـن بين هذه الـــطـــرق أن يــقــوم المـــواطــــن الـــذي يشتبه في وجود قنبلة في محيط منزله أو في أي مكان، بتصوير المـوقـع، وإرسـالـه على التطبيق، مـتـبـوعـاً بـتـحـديـد المــكــان بـنـظـام خرائط »غوغل« أو »جي بي إس.«
كـــــمـــــا خـــــصـــــص نــــاشــــطــــون آخــــــــرون صــفــحــات عــلــى مــواقــع التواصل الاجتماعي للإبلاغ عن المـفـخـخـات. وكــل هــذا الـسـيـل من المعلومات يتم إرساله على الفور إلى الجيش الذي يقوم باتخاذ ما يـجـب... يضع أولاً شريطاً حول المنطقة ثم يبدأ في توجيه ضباط الــهــنــدســة الــعــســكــريــة لمـعـالـجـة المشكلة.
فــــي ضـــاحـــيـــة »الــــصــــابــــري« عـــاد رجـــال الـهـنـدسـة الـعـسـكـريـة عــلــى عــجــل بــعــد عـــــدة بـــلاغـــات. وفــي هــذه الضاحية فقد ضباط آخـرون أرواحهم. وفي كل جلسة اســـتـــراحـــة تــسـمــع وأنـــــت ُتـشـرب الشاي أسماء جديدة لمن قتلوا... كان من بينهم العسكري المتقاعد محمد الفاخري.
وضــحــى الــفــاخــري بـحـيـاتـه حــين كـــان يــقــوم بــنــزع الـحـجـارة مـن فـوق مسطرة مـربـوطـة بدانة مــدفــع مــن عــيــار ١٥٥ مـلـلـيـمـتـراً. كـانـت الــدانــة مــزروعــة عـلـى بعد مترين تقريباً من موقع المسطرة. وانفجرت مرة واحدة. ومن قوتها أطاحت بواجهة العمارة وتركت حفرةكبيرةفيالمدخل. ُ
وكـــــــان لـــلـــفـــاخـــري ابــــــن قــتــل أثـنـاء مـشـاركـتـه فـي الـحـرب ضد المتطرفين فـي الـشـهـور الماضية. ويقول أحد زملائه: »كان ضابطاً مـقـدامـاً. ولــم يمنعه الـتـقـاعـد من الجيش قبل سنوات، من العودة لمـــــد يـــــد الـــــعـــــون لـــجـــهـــود أبـــنـــاء بــنــغــازي فـــي تــحــريــر مـديـنـتـهـم مــن الإرهــابــيــين ومـــن المـفـخـخـات التي تركوها، خصوصاً بعد أن اسـتـشـهـد ابـنـه فــي هــذه الـحـرب. مــثــل هــــؤلاء الــضــبــاط والــجــنــود قدموا أرواحهم للوطن، لأنهم إذا لـم يقوموا بـذلـك سينفجر اللغم أو الدانة في عائلة أو في أسرة«.
وفـــي مـبـنـى آخــــر، عــثـر أحــد الــضــبــاط عــلــى مــســطــرة مخفية تحت كومة من التراب في جانب الـرصـيـف. وهــذا يعني مخاطرة جديدة لنزع فتيل القنبلة. وكانت المسطرة مربوطة بدانة مدفع من عـيـار ١٢٢ مـلـلـيـمـتـراً. وبـــدأ وجـه الـضـابـط يتصبب بـالـعـرق وهـو يــمــســك بــســكــين ويــــحــــاول فـصـل المـسـطـرة، أي أداة الـتـفـجـيـر، عن القنبلة.
وحــــبــــس زمــــــــــلاؤه الــســبــعــة أنــفــاســهــم، وهــــم يــقــفــون بـعـيـداً، خوفاً من وقوع كارثة. وبعد قليل رفع الضابط يديه عالياً والسكين في يـده. وصـاح: »الله أكبر ولله الحمد«. وهرع الباقون إليه وهم يكبرون ويهللون. لقد تمت إزالة الخطر.
ويــــــقــــــول مــــــرافــــــق »الـــــشـــــرق الأوسط« وهو من الجيش: »حين يفكك الضابط الدانة، يحيلها إلى سلاح المدفعية، لاستخدامها مرة أخرى في الحرب ضد الدواعش. ما يزرع في الشارع يصيب أياً من الناس... عرباً أو أجانب أو سيارة أو حــيــوانــات... أي شـــيء. هناك دانـــات مـربـوطـة بـجـهـاز لاسلكي لـلـتـفـجـيـر عـــن بــعــد وبــالــهــواتــف الجوالة أيضاً. ومنذ قليل عثرنا عـلـى واحـــدة خـاصـة بـراجـمـة من عـيـار ١٠٧ مـلـلـيـمـتـرات، مربوطة بـلاسـلـكـي أمـــام مـسـجـد ضاحية القوارشة .«
ومـــرة أخـــــرى... وقــت قصير لــلاســتــراحــة. وأكــثــر شـــيء يـقـدم فـي مثل هـذه الأوقــات هـو الخبز والــشــاي. فـرغـم أن الــدولــة غنية بـالـنـفـط، ُّفـإنـهـا أصـبـحـت تعاني من الفقر والشح. في كل مرة خبز وشاي. ويبدو أنه الغذاء الرئيسي لآلاف الـضـبـاط والــجــنــود طــوال النهار.
ومـــــــــع الإرهـــــــــــــــــاق والــــــجــــــوع وانتظار الموت، يكون لهذا الطعام البسيط رائحة ومذاق وجائزة لا تقدر بثمن. أما إذا تطوعت إحدى الـــعـــائـــلات الـــتـــي جــــــاءت حـديـثـاً للمنطقة الـتـي جــرى تطهيرها، وأرســلــت للمجموعة العسكرية قـصـعـة أرز مـطـبـوخ بـالـطـمـاطـم، فهذه جائزة مضاعفة تشجع على مزيد من العمل.
ويـــــقـــــول ضــــابــــط مــخــضــرم يـــــدعـــــى عــــــــــوض، فــــــــوق الــســتــين مـــن الــعــمــر، كــــان قـــد تــقــاعــد مـن الـــخـــدمـــة فــــي الــجــيــش فــــي أيــــام العقيد الراحل معمر القذافي، إن خبرات المتطرفين في زرع الألغام والمـفـخـخـات جلبوها معهم إلـى ليبيا مـن مـنـاطـق الاقـتـتـال التي كانوا يشاركون فيها، في العراق وأفغانستان والشيشان وسوريا وغيرها.
ويضيف: »حتى أسطوانات غــــــــاز الــــطــــهــــي يــســتــخــدمــونــهــا مفخخات. كلها خبرات مختلفة جمعوها في بنغازي.« ويشارك عـــــــــوض فــــــي عــــمــــلــــيــــات تــفــكــيــك المفخخات، وكل طموحه أن يجد مــلابــس عـسـكـريـة يـرتـديـهـا بـدل ملابسه المدنية. ويفتقر الجيش الليبي عموماً للإمكانات بما فيها »النقص في القيافات (أي ملابس الجيش(«، كما يقول عوض.
ودارت قطع الخبز وفناجين الـــــشـــــاي المـــغـــلـــي دورة أخـــــــرى. ويــقــول الـضـابـط عــوض إنــه قـرر الـعـودة إلــى بـنـغـازي والانـخـراط فــــي الــجــيــش مــتــطــوعــاً بــعــد أن انتشرت عمليات تفخيخ سيارات العسكريين وبيوتهم في المدينة على يد المتطرفين.
ويـتـذكـر تـلـك الأيــــام القريبة حـــيـــث »كـــــانـــــت جـــثـــث الــضــبــاط والــقــيــادات الـعـسـكـريـة تـلـقـى في الـشـوارع يـومـاً بعد يـــوم... حتى العميد أحمد البرغثي، مدير إدارة الشرطة العسكرية في طرابلس، لم يسلم من يد الإرهاب. كان رفيقنا. وحين جاء إلى بنغازي في زيارة قتلوه. ورأيت آثار التعذيب على جثته. ثم استهدفوا زملاءه، هنا، بالمفخخات .«
وفــــــــــي نــــــطــــــاق الـــعـــمـــلـــيـــات الــــعــــســــكــــريــــة شــــــمــــــال ضـــاحـــيـــة الـــصـــابـــري، يــقــف المــــــلازم مـرعـي الــــحــــوتــــي بـــعـــد أن فـــقـــد جـمـيـع زمــــلائــــه مــــن الــعــســكــريــين أثــنــاء الـحـرب على الإرهـــاب حـين كانت فـي بـدايـتـهـا... والـيـوم يـبـدو أنـه لا يريد أن يتراجع. ويسعى وراء فـلـول المتطرفين بـلا هـــوادة كأنه يريد أن يلحق برفاقه الذين جرى تـفـجـيـرهـم وقـتـلـهـم أمـــام عينيه. ومـــن بــين هــــؤلاء الـــرائـــد الــراحــل فضل الحاسي.
كـان الحاسي آمـر التحريات بالقوات الخاصة. وكان الحوتي معاوناً له. كانوا ٧ رفاق خاضوا الــحــرب فــي ظـــروف عصيبة ولـم
َ يتبق منهم سوى هو. والآن يقود الحوتي مجموعة من العسكريين في سيدي خريبيش، بعد أن تمكن من طرد المتطرفين من »الصابري« و »سوق الحوت .«
وبينما تميل الشمس ناحية الــــغــــروب، تــبــدو الــســفــن مـجـلـلـة بغلالة حـمـراء، وهـي رابـضـة في ميناء بنغازي الذي ظل لأكثر من ٣ أعوام تحت سيطرة المتطرفين. ونصبت الـقـوات البحرية بوابة لمـنـع المــواطــنــين مــن الــعــبــور إلـى الـضـواحـي الـداخـلـيـة المطلة على الــبــحــر، إلا بــعــد تــطـهـيـرهــا مـن مفخخات الألغام. وكانت الأولوية فـي تنظيف المنطقة مـن الـدانـات والمــــتــــفــــجــــرات لـــصـــالـــح المـــيـــنـــاء بطبيعة الحال.
وأمـــر أحـــد الـضـبـاط بـإعـداد الــــشــــاي مــــجــــدداً. وجـــــــاء جــنــدي بأرغفة الخبز لكي يسخنها على الــنــار. وبـــدأ كــلٌ يـذكـر أصــدقــاءه الذين رحلوا وهم يحاولون فتح آفــاق جـديـدة للمستقبل. وكانت الـعـمـارات والأبــــراج فـي الخلفية مدمرة، وجوانب الطرقات يغطيها ركـــــام المــبــانــي المـــنـــهـــارة وبــقــايــا الحاويات التي كان المتطرفون قد جلبوها من الميناء لسد الشوارع. وسيكون هناك عمل آخر لمواصلة فـحـص كــل هـــذه الـفـوضـى ونــزع مساطر التفجير منها.
ومـــــع حـــلـــول المـــســـاء تــحــوّل الحديث إلـى لغة حزينة مشبعة بالعتاب على الضباط والجنود الذين ما زالوا يرفضون الانخراط فـــي الــجــيــش لمــســاعــدة بــنــغــازي ولـيـبـيـا عـلـى الـــعـــودة دولــــة مـرة أخرى. ويقول ضابط وهو يقضم قـطـعـة مــن الـخـبـز الــســاخــن: »يـا إخوة... كيف تتصورون الضباط الذين ينامون لدى أسرهم دون أن يشاركوا في الحرب أو يلتحقوا بالجيش؟... مـاذا سيقول هؤلاء لأبـنـائـهـم وأحـفـادهـم عـن مـعـارك تـحـريـر بـنـغـازي مــن المـتـطـرفـين، وعـــن جــهــود تـطـهـيـر المـديـنـة من الألغام ؟«.