»دفاتر« غرامشي للمرة الأولى خارج إيطاليا ضمت الدفاتر ٢٥٠٠ صفحة وكانت أخت زوجة غرامشي الروسية قد نقلتها عند وفاته إلى موسكو قبل أن يستعيدها الإيطاليون مع نهاية الحرب العالميّة الثانية
معرض لندني في ذكراه الثمانين
لا تـــكـــمـــن أهــــمــــيــــة المـــفـــكـــر الإيـــطـــالـــي أنــطــونــيــو غــرامــشــي ١٨٩١) - )١٩٣٧ فـــقـــط فــــي أن مُـجـمـل أعـمـالـه تتيح للمعنيين المعاصرين اليوم، وعبر مجالات متعددة من ّ علوم السياسة إلى الفلسفة والنقد الأدبي والتاريخ والَمـــســـرح والــصــحــافــة وفـلـسـفـة الـلـغـة والـتـعـلـيـم، الاسـتـنـاد إلـى نـــظـــريـــة مــتــكــامــلــة فــــي تـفـسـيـر وتــحــلــيــل ظــــواهــــر مـــعـــقـــدة فـي الاجتماع الإنساني، بل وأيضاً فــي تـقـديـمـه نـمـوذجـاً شخصياً نادراً من التجرد والالتزام وحس القيادة لأحد أهم زعماء التجربة اليسارية في أوروبا فترة ما بين الحربين العالميين.
وقد حازت كتابات غرامشي المــبــثــوثــة فـــي نــصــوص عــديــدة متفرقة فـي الـصـحـف والمـجـلات والـــــرســـــائـــــل الــشــخــصــيــة عـلـى اهتمام غير معهود في الأوساط الأكـاديـمـيـة الـغـربـيـة، بالنسبة لـكـاتـب يـــســـاري، حـتـى قـيـل إنـه أكـثـر المـفـكـريـن الإيـطـالـيـين على الإطلاق لناحية عدد المرات التي اقتُبس فيها عنه في الـدراسـات الاجــتــمــاعــيــة الـــنـــظـــريـــة. وهــــذا بـالـطـبـع إلـــى جــانــب الـنـقـاشـات الــواســعــة الـتـي أثــارتــهــا أفـكـاره فـــــي الأجــــــــــــواء الــــيــــســــاريــــة مـنـذ الـسـبـعـيـنـات، والــتــي تُــعــد نقلة نوعية في تطوير الفكر الماركسي، لا سيما نظريته في »الهيمنة« السياسية والثقافية التي تفسر أســبــاب عـــدم قــيــام الـــثـــورات في المجتمعات المعاصرة.
ّ كان غرامشي مثل بشخصه أكـــبـــر تـــهـــديـــد لـــنـــظـــام بـيـنـيـتـو موسيلليني الفاشي الصاعد في عشرينات القرن الماضي بسبب مـن قـدرتـه الهائلة على صياغة الأفــكــار، وقـيـادة الـعـمـل الـثـوري على الأرض في الوقت ذاته، ولذا فقد حكمت عليه محكمة فاسدة بـالـسـجـن عــشــريــن عــامــاً - رغــم تـمـتـعـه بـالـحـصـانـة الـبـرلمـانـيـة، إذ كـان انتخب وقتها نائباً في البرلمان الإيطالي - قضى منها أكـثـر مــن نـصـفـهـا قـبـل أن يلقى حتفه بعد إفراج متأخر عنه عام ١٩٣٧ بسبب من تـردي أوضاعه الصحية، لكن دون أن يـقـدّم أي تنازل لسجانيه.
أهـــــــــم كـــــتـــــابـــــات غــــرامــــشــــي وضــعــهــا خـــــلال فـــتـــرة اعـتـقـالـه الـــــطـــــويـــــلـــــة تـــــلـــــك فـــــــي ســـجـــون موسيلليني من خلال ٣٣ دفتراً كـــــان يــســجــل فــيــهــا مــلاحــظــاتــه الفكرية، وتعليقاته على الكتب والأحــــداث ونـقـده العميق لأهـم نـتـاجـات مثقفي عــصــره. ورغــم أن تلك الملاحظات كانت شديدة الـتـشـتـت فــي المــوضــوعــات الـتـي تناولتها، وغير نهائية، وتتسم بـــــالُمـــــراوغـــــة الـــلـــغـــويـــة لـتـجـنـب مصادرتها من قبل إدارة السجن، إضـافـة إلـى اللغة »الغرامشية« المتقدمة في صياغة المصطلحات ووصف الظواهر، فإنها تحولت بـمـرور الأيـــام إلــى مجموعة من أهم ما كُتب في الفكر السياسي الإيطالي الحديث، وثروة فكرية نهلت منها أجـيـال مـن المفكرين المــــعــــاصــــريــــن فــــــي صــيــاغــتــهــم لــنــظــريــاتــهــم بــــشــــأن الـــــثـــــورات وبُنية السلطة وأدوار المثقفين، والــثــقــافــة الـشـعـبـيـة والـنـظـريـة الثقافية والنقدية والاستشراق والإمبريالية وتأثيرات الصناعة الـــرأســـمـــالـــيـــة عـــلـــى الاجـــتـــمـــاع البشري.
وقـــــــــد ضــــــمّــــــت الــــــدفــــــاتــــــر - الـبـسـيـطـة كـأنـهـا أوراق تلميذ مـدرسـة - ٢٥٠٠ صفحة تقريباً مكتوبة بالإيطاليّة بخط أنيق ومرقمة مـن الـخـارج. ويـبـدو أن أخــت زوجـــة غـرامـشـي الـروسـيـة نقلتها عند وفـاتـه إلـى موسكو قبل أن يستعيدها الإيطاليون مع نهاية الحرب العالمية الثانية، لــتــنــشــر فـــــي لــغــتــهــا الأصـــلـــيـــة بطبعة غير محكمة لكنها كافية لاســـتـــعـــادة الاهـــتـــمـــام بــالــرجــل وأفـكـاره، خصوصاً فـي أوسـاط يساريي جنوب أوروبا.
حـلّـقـت أفــكــار غـرامـشـي في فـضـاء الـعـالمـيـة مـن بـوابـة اللغة
ُ الإنـجـلـيـزيـة، إذ نقلت إليها في بــــدايــــة الــســبــعــيــنــات نــصــوص مـخـتـارة مـن »دفــاتــر الـسـجـن« - كما صـارت تعرف بين المهتمين - مــع تـبـويـب وتـصـنـيـف سمح بــــقــــراءة الـــنـــصـــوص فــــي ضــوء جــــديــــد، لــتــثــيــر مـــوجـــة واســعــة مـــــــن الاهــــــتــــــمــــــام عــــبــــر الــــغــــرب الأنــغــلــوفــونــي كــلّــه، ولـتـتـبـعـهـا عـــــشـــــرات الـــكـــتـــب والـــنـــصـــوص التي اتخذت من أفكار غرامشي منطلقاً لها، إضافة إلى ترجمات للنصوص الأصلية أو مقتطفات منها في كل اللغات الحية تقريباً (بـمـا فيها الـعـربـيّـة). ويـبـدو أن تنظيرات غـرامـشـي بـشـأن شكل
ُ السلطة ونظم الهيمنة لقيت آذاناً صـاغـيـة بــين الـشـبـان الـغـربـيـين الــذيــن كــانــوا يـعـيـشـون مـرحـلـة ما بعد ربيع بـراغ وثـورة طلاب باريس ١٩٦٨ (وجدالات الحقوق المدنيّة والـحـرب الأميركيّة على فـيـتـنـام فــي الــجــانــب الآخــــر من الأطلسي).
وقـد ترافقت موجة العالمية هــــــــــذي مـــــــع إعـــــــــــــــادة اكــــتــــشــــاف الإيــــطــــالــــيــــين أنـــفـــســـهـــم لـقـيـمـة مــفــكــرهــم الــــــذي عـــانـــى صـنـوف الظلم المـتـعـدد، فـبـدأت قطاعات واســعــة بـتـبـنـيـه كــرمــز إيـطـالـي عظيم بعيداً عن المواقف الحزبية الضيقة التي أملتها أيام الحرب الباردة، وتأسست في البلاد عدة لـجـان وطنية وجمعيات تعنى بـحـفـظ تــــراث غــرامــشــي ونـشـره وتوسيع نطاق الاهتمام به.
وقد اختارت الدولة الإيطالية مـمـثـلـة بـمـعـهـدهـا الـثـقـافـي في الـعـاصـمـة الـبـريـطـانـيّـة لـنـدن أن تحيي الـذكـرى الثمانين لغياب غــرامــشــي مـــن خــــلال مـجـمـوعـة أنشطة يُتوجها معرض لدفاتر الـــســـجـــن الـــــــــــ٣٣، بــحــيــث يـمـكـن لــلــجــمــهــور، ولأول مــــرة خـــارج إيــــطــــالــــيــــا، الاطـــــــــــلاع مـــبـــاشـــرة عــلــى الــنــصــوص الأصــلــيــة بيد المـفـكـر الــراحــل. كـمـا نظمت عـدة مـحـاضـرات لمــؤرخــين ومفكرين نـجـوم عـالمـيـين يـتـنـاولـون فيها تــاريــخــيــة غــرامــشــي وراهـنـيـتـه (الــبــروفــســور سـيـلـفـيـو بــونــز)، والمـــكـــانـــة الـــخـــاصـــة لــفــكــره فـي بريطانيا تحديداً (البروفسورات جـــوســـيـــيـــبـــي فـــــاكّـــــا وكـــلـــوديـــا مانسينا)، إضافة إلى غرامشي معاصرنا (البروفسيور دونالد ســــاســــون). ويــتــضــمــن مـعـرض الـــدفـــاتـــر شــــاشــــات إلــكــتــرونــيــة تـسـمـح لــلــزائــريــن بـالـتـنـقـل بين صــفــحــات نــســخــة مـــصـــورة مـن الدفاتر الـ٣٣ عبر اللمس.
افـتَـتَـح المـعـرض ٣٠ أكتوبر (تشرين الأول) الماضي باسكال تـيـراسـيـانـو الـسـفـيـر الإيـطـالـي فـي لـنـدن الــذي تفاجأ بجمهور غفير، لا سيما من الشباب، ملأ أروقــة المعهد الثقافي الإيطالي الـــذي شـهـد طـوابـيـر طـويـلـة من المـنـتـظـريـن لــلــدخــول إلـــى قـاعـة عــــرض »الــــدفــــاتــــر«، وهــــو لـذلـك اضطر للتخلي عن كلمته المكتوبة التي تتحدث عن أن البريطانيين ربما لا يعلمون الكثير عن هذا المـفـكـر الـعـظـيـم، لـيـرتـجـل كلمة عبّر فيها عن افتخار كل إيطاليا بـسـجـيـنـهـا الــشــهــيــد، ومــعــيــداً الاعتبار له بوصفه واحداً من أهم مـفـكـري إيـطـالـيـا عـبـر الـعـصـور، ومعبراً عن فرحِه بالحشود التي حضرت للاطلاع على ما خطته يد غرامشي خلال سنوات سجنه الطويلة.
بـــالـــفـــعـــل فــــــــإن لـــغـــرامـــشـــي مكانة استثنائية عند المثقفين البريطانيين، لا سيما يسارهم، تــــعــــود بــــدايــــاتــــهــــا إلـــــــى عــلاقــة الــصــداقــة الــخــاصــة الــتــي كـانـت تــربــط غــرامــشــي بــبــيــرو ســرافــا أســــــتــــــاذ الاقـــــتـــــصـــــاد بــجــامــعــة كـــامـــبـــردج الــبــريــطــانــيّــة، الـــذي كــــــان عـــلـــى تــــواصــــل دائـــــــم مـعـه أثناء فترة سجنه، وكـان يـزوده بــالــكــتــب والمـــــجـــــلات، وفـــتـــح لـه حــســابــاً لــــدى إحــــــدى المـكـتـبـات الإيــطــالــيــة كــي يـطـلـب مـنـهـا ما يــــريــــد مـــــن المــــطــــبــــوعــــات. ومـــن المـــؤكـــد أن الــبــروفــســور ســرافــا كــان وراء الـحـوار - عبر البحار - بــــين غـــرامـــشـــي والــفــيــلــســوف الـــــنـــــمـــــســـــاوي الــــــلامــــــع لــــوديــــغ ويـتـجـيـنـشـتـايـن أثــنــاء سـنـوات الأخــيــر فــي كــامــبــردج، لا سيما أنــهــمــا كـــانـــا مــهــتــمــين بـتـأثـيـر الــلــغــة عــلــى الــفــكــر. وبــعــد نشر المـــخـــتـــارات مـــن دفـــاتـــر الـسـجـن بالإنجليزية عام ١٩٧١ (ترجمها كوينتن هواري وجيوفري نويل - سميث) تـأثـر أكـاديـمـيـون كثر بـــآرائـــه مـنـهـم ســـتـــيـــوارت هــول وزمــــــلاؤه فـــي مــركــز الـــدراســـات الـثـقـافـيـة بـجـامـعـة بـيـرمـنـغـهـام الذين قدموا أفضل مساهمة في تطوير النظرية الثقافية ودراسة الثقافة الشعبية بالغرب، بينما وصفه إريك هوبزبوم أهم مؤرخ بـريـطـانـي فــي الــقــرن الـعـشـريـن بـ »غرامشي العظيم«، ونشر نصاً هائلاً في تثمين أفكاره كـأدوات لا بد منها لفهم عالمنا المعاصر.
بــــالــــطــــبــــع فـــــــــإن لــــــ »دفـــــاتـــــر السّجن« قيمة تاريخية وفكرية وعاطفية لا تقدر بأثمان، ليس لأننا نحتاج لأن نقرأ غرامشي من خلالها، فتلك الدفاتر صوّرت وتـرجـمـت وحـفـظـت نصوصها إلــكــتــرونــيــاً، ولــــم ّنــعــد نـخـشـى عليها من الضياع. لكنها تبقى على مستوى آخر رمزاً إنسانياً شــامــخــاً لانــتــصــار الــفــكــر عـلـى الــقــضــبــان، ولمــواجــهــة يـقـودهـا بالكلمات والأفــكــار رجــل واحـد مــحــاصــر ضــــد ظـــــلام الــفــاشــيــة والهيمنة وكراهية الآخر.
القاضي الإيطالي الذي حكم عـلـى غـرامـشـي بـالـسـجـن قــال له »هذا العقل الذي لديك سنمنعه مـن التفكير لعشرين عـامـاً«. لم يـعـد أحـــد يــذكــر اســـم الـقـاضـي، وغاب جسد مفكرنا المنهك، لكن ذلك لم يمنع أفكار عقله المشتعل مـــن الُمـــضـــي فـــي إلـــهـــام المـثـقـفـين والمفكرين والثوريين بعد عشرات الأعــــوام، الـذيـن يـعـرفـون تـاريـخ الـعـالـم ويـتـأمـلـون فــي حكمته، يعلمون جيداً، أن للأفكار أجنحة وهي لا تُسجن ولا تموت.