اﻟﻌﻴﺶ ﻓﻲ ﺛﻴﺎب اﳌﺎﺿﲔ
اﻟﻐﺎﻟﺒﻴﺔ اﻟﺴﺎﺣﻘﺔ ﻣـﻦ ﻓﻘﻬﺎء اﳌــــﺴــــﻠــــﻤــــﲔ ﻣــــﺘــــﻔــــﻘــــﻮن، ﻋــــﻠــــﻰ أن اﻻﺟﺘﻬﺎد ﺿﺮورة ﻟﺘﻤﻜﲔ اﻟﺸﺮﻳﻌﺔ ﻣﻦ اﺳﺘﻴﻌﺎب اﻟﺘﺤﺪﻳﺎت اﳌﺴﺘﺠﺪة ﻓﻲ ﻛﻞ زﻣﻦ. ﻧﻌﺮف ﻃﺒﻌﴼ أن ﻣﺤﺮك اﻻﺟﺘﻬﺎد ﻫﻮ اﻷﺳﺌﻠﺔ اﻟﺘﻲ ﻟﻢ ﺗﺒﺮز ﻋـﻠـﻰ ﺳـﻄـﺢ اﳌﺠﺘﻤﻊ ﻓﻴﻤﺎ ﺳﺒﻖ، وﻛـــﺬﻟـــﻚ اﻷﺳــﺌــﻠــﺔ اﻟـــﺘـــﻲ ﻣـــﺎ ﻋـــﺎدت أﺟﻮﺑﺘﻬﺎ اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ﻣﻘﻨﻌﺔ أو ﻛﺎﻓﻴﺔ.
ﻣــــﻔــــﻬــــﻮم أﻳـــــﻀـــــﴼ أن ﻋــﻤــﻠــﻴــﺔ اﻻﺟﺘﻬﺎد، ﺗﺘﻄﻠﺐ ﻣﺆﻫﻼت ﻋﻠﻤﻴﺔ ﻻ ﺗـﺘـﻮﻓـﺮ ﻟﻐﻴﺮ ﻗـﻠـﺔ ﻣــﻦ اﻟﺒﺎﺣﺜﲔ اﳌﺘﻌﻤﻘﲔ ﻓﻲ دراﺳﺔ اﻟﻨﺺ اﻟﺪﻳﻨﻲ ﻣــﻦ ﺟﻬﺔ وأدوات اﻻﺳـﺘـﻨـﺒـﺎط ﻣﻦ ﺟﻬﺔ أﺧﺮى.
ﻗـــﺪ ﻳــﻜــﻮن اﻹﻣـــــﺎم أﺑـــﻮ ﺣﻨﻴﻔﺔ اﻟـــــــﺬي ﻋــــــﺎش ﻓــــﻲ اﻟــــﻘــــﺮن اﻟـــﺜــﺎﻣـــﻦ اﳌﻴﻼدي )ت ٧٦٧م( أول ﻓﻘﻴﻪ ﻣﺴﻠﻢ ﻳــــﻤــــﺎرس اﻻﺟــــﺘــــﻬــــﺎد. وﻗـــــﺪ وﺿـــﻊ ﺟﻤﻠﺔ ﻣــﻦ اﻟــﻘــﻮاﻋــﺪ اﳌـﻨـﻬـﺠـﻴـﺔ، ﻣﺎ زاﻟــــﺖ ﻣــﻌــﺘــﻤــﺪة ﺣــﺘــﻰ اﻵن. أﺷـﻴـﺮ أﻳﻀﴼ إﻟﻰ اﻟﺪور اﻟﺘﺄﺳﻴﺴﻲ ﻟﻺﻣﺎم اﻟﺸﺎﻓﻌﻲ )ت ٠٢٨م( اﻟــﺬي ﻳﻌﺘﺒﺮ ﻛﺘﺎﺑﻪ »اﻟﺮﺳﺎﻟﺔ« أول ﻋﻤﻞ ﻣﻨﻬﺠﻲ ﻓﻲ ﻫﺬا اﻟﺤﻘﻞ.
ﺧـــــــــﻼل اﻻﺛـــــــﻨـــــــﻲ ﻋــــﺸــــﺮ ﻗـــﺮﻧـــﴼ اﳌــــﺎﺿــــﻴــــﺔ، أﻧــــﺘــــﺞ اﻟـــﻔـــﻘـــﻬـــﺎء آﻻف اﻟﺒﺤﻮث اﳌﺘﻴﻨﺔ ﻓﻲ ﻛﻞ ﻣﺎ ﻳﺘﻌﻠﻖ ﺑﻔﺮوع اﻟﺪﻳﻦ. أﺳﺘﻄﻴﻊ اﻟﻘﻮل - ﻣﻊ ﺑﻌﺾ اﻟﺘﺤﻔﻆ - إن ﺟﻤﻴﻊ اﻵﻳﺎت واﻷﺣــــﺎدﻳــــﺚ اﻟــﺘــﻲ ﺗـﺴـﺘـﻔـﺎد ﻣﻨﻬﺎ أﺣــﻜــﺎم ﺷـﺮﻋـﻴـﺔ، ﻗــﺪ درﺳـــﺖ ﻣﺌﺎت اﳌــــــــﺮات، ﻋــﻠــﻰ ﻳـــﺪ ﻣـــﺌـــﺎت اﻟــﻔــﻘــﻬــﺎء ﺧﻼل ﻣﺴﻴﺮة اﻟﻔﻘﻪ اﻟﻄﻮﻳﻠﺔ. وﻧﻈﺮﴽ ﻟﻜﺜﺎﻓﺔ وﺗﻨﻮع ﻫﺬه اﻷﺑﺤﺎث، ﻓﺈن ﻓــﻘــﻬــﺎء اﻟـــﻴـــﻮم ﻻ ﻳـــﺠـــﺪون ﺑــــﺪﴽ ﻣﻦ اﻟـــﺒـــﺪء ﺑــﻤـﺮاﺟــﻌــﺘــﻬــﺎ ﺣـــﲔ ﺗـﻌـﺮض ﻟﻬﻢ أي ﻣﺴﺄﻟﺔ ﺟﺪﻳﺪة. اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ أن ذﻟــﻚ اﻟــﺘــﺮاث اﻟﻀﺨﻢ ﻗـﺪ وﻓــﺮ ﻋﻠﻰ اﳌﻌﺎﺻﺮﻳﻦ، ﺟﺎﻧﺒﴼ ﻛﺒﻴﺮﴽ ﻣﻦ ﻛﻠﻔﺔ اﻟﺒﺤﺚ ﻓﻲ اﳌﺴﺎﺋﻞ. وﻣﻦ ﻫﻨﺎ ﻓﺈن آراء اﻟﺴﺎﺑﻘﲔ ﺗﺸﻜﻞ اﻟﺠﺰء اﻷﻛﺒﺮ ﻣﻦ أي ﺑﺤﺚ ﻳﻘﺪﻣﻪ ﻓﻘﻬﺎء اﻟﻴﻮم.
ﻫـﺬا ﻳﺴﺘﺪﻋﻲ ﺑﻄﺒﻴﻌﺔ اﻟﺤﺎل ﺳﺆاﻻ، ﻳﺒﺪو ﻏﺮﻳﺒﴼ ﺑﻌﺾ اﻟﺸﻲء، ﺧﻼﺻﺘﻪ: إذا ﻛﺎن اﻟﻔﻘﻴﻪ اﳌﻌﺎﺻﺮ ﺳﻴﻌﺘﻤﺪ اﻵراء واﻻﺳﺘﺪﻻﻻت اﻟﺘﻲ ﺗﺒﻨﺎﻫﺎ ﻗﺪاﻣﻰ اﻟﻔﻘﻬﺎء، ﻓﻤﺎ اﻟﺤﺎﺟﺔ إﻟﻰ اﻻﺟﺘﻬﺎد ﻓﻲ ﻫﺬا اﻟﺰﻣﻦ؟
ﻛـﻨـﺖ ﻗــﺪ وﺟــﻬــﺖ ﻫـــﺬا اﻟــﺴــﺆال ﻷﺣـــــﺪ أﺳــــﺎﺗــــﺬﺗــــﻲ، ﻓـــﺄﺧـــﺒـــﺮﻧـــﻲ أن اﻟﺮﺟﻮع ﻟﻠﻘﺪاﻣﻰ ﻏﺮﺿﻪ اﻻﺳﺘﻌﻼم ﻻ اﻻﻟــــﺘــــﺰام ﺑـــﺂراﺋـــﻬـــﻢ، ﺗــﻤــﺎﻣــﴼ ﻛﻤﺎ ﻳﺮﺟﻊ أي ﺑﺎﺣﺚ ﻟﻜﺘﺐ اﻵﺧﺮﻳﻦ، ﻛﻲ ﻳـﻮﺳـﻊ أﻓـﻘـﻪ وﻳـﺘـﻌـﺮف ﻋﻠﻰ أﺑﻌﺎد ﻟﻠﻤﺴﺄﻟﺔ ﻟﻢ ﺗﺮد ﻓﻲ ذﻫﻨﻪ ﻗﺒﻠﺌﺬ.
ﻫﺬا اﻟﺠﻮاب اﻟﺬي ﻳﺒﺪو ﻣﻌﻘﻮﻻ ﻧﻮﻋﴼ ﻣﺎ، ﻟﻢ ﻳﻘﻨﻌﻨﻲ. ﻷﻧﻲ وﺟﺪت ﻣﻦ أﺳﺄل ﻋﻨﻬﻢ، ﻣﺘﻘﻴﺪﻳﻦ ﺣﺮﻓﻴﴼ، ﻟﻴﺲ ﻓﻘﻂ ﺑـﺎﺳـﺘـﺪﻻﻻت اﻟﺴﺎﺑﻘﲔ وآراﺋــﻬــﻢ، ﺑﻞ - وﻫــﺬا ﻫﻮ اﻷدﻫــﻰ - ﺑــﺘــﺼــﻮرﻫــﻢ ﳌــﻮﺿــﻮﻋــﺎت اﳌـﺴـﺎﺋـﻞ وﺗﻜﻴﻴﻔﻬﺎ. وﻷن اﻟـﻔـﻘـﻪ ﺑﻄﺒﻴﻌﺘﻪ ﺷـــﻜـــﻠـــﻲ، ﻳــــﻮﻟــــﻲ اﻫـــﺘـــﻤـــﺎﻣـــﴼ ﻛــﺒــﻴــﺮﴽ ﻟــﻸﺳــﻤــﺎء، ﻓـــﺈن ﻣــﻌــﻈــﻢ ﻣـــﺎ ﺗــﻮاﻓــﻖ اﻟﺴﺎﺑﻘﻮن ﻋﻠﻰ ﺗﻌﺮﻳﻔﻪ، ﻗﺪ اﻧﺘﻘﻞ ﺑــﻘــﻀــﻪ وﻗــﻀــﻴــﻀــﻪ إﻟــــﻰ دراﺳـــــﺎت اﻟﻔﻘﻬﺎء اﳌﻌﺎﺻﺮﻳﻦ.
أذﻛـﺮ ﻟﻠﻤﻨﺎﺳﺒﺔ أن أﺳﺘﺎذﴽ ﻟﻲ ﻋﺮض ﻋﻠﻰ ﺑﺤﺎر ﻋﺠﻮز، اﻟﻄﺮﻳﻘﺔ اﻟﺘﻲ ذﻛﺮﻫﺎ اﻟﻔﻘﻬﺎء، ﻟﺘﺤﺪﻳﺪ أوﻗﺎت اﻟﺼﻼة واﻟﻘﺒﻠﺔ ﻓﻲ ﻋﺮض اﻟﺒﺤﺮ. ﻓﺄﺟﺎﺑﻪ اﻟﺒﺤﺎر ﺑﺒﺴﺎﻃﺔ: ﻟﻮ رﻛﺒﺖ ﺳﻔﻴﻨﺔ ﻟﺘﺮﻛﺖ ﻛﻞ ﻫﺬا اﻟﻜﻼم، ﻷن ﻛﺎﺗﺒﻪ ﻻ ﻳﻌﺮف اﻟﺒﺤﺮ وﻟﻢ ﻳﺠﺮﺑﻪ. ﺛﻢ ﺷﺮح ﻃﺮﻳﻘﺔ اﻟﺒﺤﺎرة ﻓﻲ ﺣﺴﺎب اﻟــﺰﻣــﻦ واﳌــﺴــﺎﻓــﺎت واﻻﺗــﺠــﺎﻫــﺎت، وﻛــــﺎﻧــــﺖ ﻣــﺨــﺘــﻠــﻔــﺔ ﻋـــﻤـــﺎ ذﻛــــــﺮ ﻓــﻲ اﻟﻜﺘﺎب. وﺣﺴﺐ ﻋﻠﻤﻲ ﻓﺈن اﻟﺒﺎب اﳌﺴﻤﻰ »ﻛﺘﺎب اﻟﻮﻗﺖ واﻟﻘﺒﻠﺔ« ﻣﺎ ﻋﺎد ﻳﺪرس اﻵن، ﻷن أﺳﺎﺗﺬة اﻟﻔﻘﻪ اﻗـﺘـﻨـﻌـﻮا أﺧــﻴــﺮﴽ أن اﻻﻋـﺘـﻤــﺎد ﻋﻠﻰ اﻟﺴﺎﻋﺔ واﻟﺒﻮﺻﻠﺔ، أﺟــﺪى وأﻧﻔﻊ ﻣﻤﺎ ﺗﻮارﺛﻮه.
ﻣــــﺎ زال ﺳــــﺆاﻟــــﻲ ﺣــــﺎﺋــــﺮﴽ: ﻫـﻞ ﻳﻤﻜﻦ ﳌﻦ ﺗﺸﻜﻠﺖ ذﻫﻨﻴﺘﻪ ﻣﻦ ﺧﻼل دراﺳﺔ اﻟﺘﺮاث اﻟﻔﻘﻬﻲ، ﻫﻞ ﻳﻤﻜﻦ ﻟﻪ أن ﻳﻨﻈﺮ إﻟــﻰ اﳌـﺴـﺎﺋـﻞ اﳌﺴﺘﺠﺪة، ﻣـــﻦ دون أن ﻳــﺘــﺄﺛــﺮ ﺑــﺘــﺼــﻮﻳــﺮات اﻟﺴﺎﺑﻘﲔ وآراﺋﻬﻢ؟ وﻫﻞ ﻳﺴﺘﻄﻴﻊ اﻟـﺘـﻌـﺒـﻴـﺮ ﻋــﻦ اﻟــــﺮأي اﻟــــﺬي ﺗـﻮﺻـﻞ إﻟـﻴـﻪ، إذا ﻛــﺎن ﻣﺨﺎﻟﻔﴼ ﺗﻤﺎﻣﴼ ﻵراء اﻟﺴﺎﺑﻘﲔ ﻓــﻲ اﳌـﺴـﺄﻟـﺔ ﻧﻔﺴﻬﺎ، أو ﻓﻲ ﻣﺴﺄﻟﺔ ﺗﺤﻤﻞ اﻻﺳﻢ واﻟﺼﻮرة ﻧﻔﺴﻬﻤﺎ؟