Asharq Al-Awsat Saudi Edition

ماكرون يقر بممارسة فرنسا التعذيب في الجزائر إبان حرب الاستقلال

باريس تقرر فتح أرشيفها الرسمي لجلاء الحقيقة التاريخية

- باريس: ميشال أبو نجم

لا شك أن تاريخ ١٣ سبتمبر (أيلول) ٢٠١٨ سيبقى »معلماً« في تاريخ فرنسا الحديث، وفي تاريخها المشترك مع الجزائر، لأنه في هذا اليوم تجرأ رئيس جمهورية فرنسا على الاعتراف بأن بلاده مارست التعذيب خلال سنوات الحرب في الجزائر، التي امتدت من عام ١٩٥٢ إلى العام ١٩٦٣.

الحقيقة أن ما قام به إيمانويل ماكرون رفض القيام به كل من سبقوه إلى رئاسة الجمهورية، من الجنرال ديغول إلى فرنسوا هولاند. من هنا، فإن ماكرون المولود في العام ١٩٧٧ ينتمي إلى الجيل الذي لم يعرف حرب الجزائر، وبالتالي كان من الأسهل بالنسبة إليه أن يقدم على خطوة لا شك أنها ستثير ردات فعل عنيفة من اليمين المتطرف، وقسم من اليمين الكلاسيكي، إضافة إلى أوساط العسكريين، خصوصاً من جمعيات المحاربين القدامى.

وكما اعترف الرئيس الأسبق جاك شيراك بمسؤولية الدولة الفرنسية في ترحيل اليهود الفرنسيين إلى المحرقة، فإن اعتراف ماكرون بممارسات التعذيب على أيدي الجيش الفرنسي، الذي خدم منه في الجزائر ما لا يقل عن ١٣٠ ألف رجل، سيشكل فاصلاً بين »كذب« الدولة، وبين تشريع الأبواب للتعرف حقيقة على ممارسات الجيش الفرنسي في الجزائر.

هذا التحول لا يمكن فصله عن »الكفاح« المزمن، الذي قامت به أرملة موريس أودان، عالم الرياضيات وعضو الحزب الشيوعي، المؤيد لاستقلال الجزائر، الذي خطفته القوات الخاصة في مدينة الجزائر في ١١ من يونيو (حزيران) ١٩٥٧، ليختفي بعدها دون أن يترك أي أثر. وحتى اليوم لم يعثر على جثمان أودان، الذي كان يعيش مع زوجته جوزيت وأولاده الثلاثة في الجزائر، حيث كان يُدرّس الرياضيات. ورغم الجهود الجبارة التي بذلتها أرملته لسنوات، والدعم الذي تلقته من جمعيات وشخصيات، فإن الجواب الكاذب الذي حصلت عليه من السلطات هو أن زوجها »فقد« بعد فراره خلال عملية نقله من مكان إلى آخر. وهذه الرواية كذبها قبل سنوات الرئيس هولاند، الذي كشف لأرملة أودان عن نصف الحقيقة بأن اعترف لها بأن زوجها لم يفر. لكن هولاند لم يذهب إلى ما ذهب إليه ماكرون، أمس، خلال زيارته لمنزل أودان، وتأكيده في رسالة رسمية سلمها إياها يداً بيد، وفي بيان صادر عن قصر الإليزيه، بأن أودان تعرض للتعذيب من طرف الجيش الفرنسي ومات تحت التعذيب.

وجاء في بيان الإليزيه أن ماكرون »يعترف باسم الجمهورية الفرنسية بأن موريس أودان عذب وأجهز عليه، أو أنه عذب حتى الموت على أيدي عسكريين ألقوا عليه القبض في منزله«. ويذهب ماكرون أبعد من ذلك لأنه يعترف أيضاً بأن حالة أودان ليست حادثاً معزولاً، لأن التعذيب تحول إلى »نهج« عبر قانون أقره البرلمان عام ١٩٥٦، وأوكل للحكومة »كامل الصلاحيات« لإعادة فرض النظام والقانون في الجزائر. وبموجبه فوضت للجيش صلاحيات استثنائية، بما فيها صلاحيات تعود عادة للشرطة والدرك.

ما يعترف به ماكرون لم يكن سراً دفيناً. فعشرات الكتب التي ألفت عن الجزائر تحدثت عن التعذيب، وتضمنت اعترافات من ضباط خدموا في الجزائر إبان الحرب. لكنها المرة الأولى التي يكذب فيها رئيس للجمهورية الروايات الرسمية لحقيقة ممارسات القوات الفرنسية في المستعمرة السابقة، التي حكمتها فرنسا طيلة ١٣٠ عاماً. وإضافة إلى الاعتراف، فإن ماكرون أمر بفتح أرشيف هذه الحرب أمام جميع المطالبين بالكشف عن مصير المختفين أو المغيبين، الذين يقدرون بالآلاف إن من الفرنسيين أو من الجزائريين.

وحسب المصادر الفرنسية، فإن حرب الجزائر أوقعت ٤٥٠ ألف قتيل من الجانب الجزائري، و٣٠ ألف قتيل من الجانب الفرنسي، وأدت إلى تهجير مئات الآلاف من الفرنسيين من هذا البلد. ويطلق على هؤلاء في فرنسا اسم »الأحذية السوداء«، وبينهم جالية كبيرة من اليهود.

ورغم أهمية بادرته، فإن ماكرون كسياسي، سعى سلفاً لرد الاتهامات والانتقادا­ت التي من المتوقع أن تنهال عليه من العديد من الأوساط الفرنسية. فقد حرص من جانب على عدم توجيه الاتهامات بممارسة التعذيب لكل القوى الفرنسية، التي اشتركت في حرب الجزائر، ومن جانب آخر، أوجد خطاً فاصلاً بين جيش الأمس والقوات المسلحة الفرنسية اليوم. إضافة إلى ذلك، فإن ماكرون يرمي بالمسؤولية على السلطة السياسية المسؤولة عن إقرار قانون سمح بممارسة التعذيب عن طريق إعطاء الجيش الضوء الأخضر لاستخدام الأساليب والإجراءات التي يرتئيها لتحقيق هدف إعادة الأمن والنظام إلى الجزائر، التي كانت تعرف ثورة حقيقية، أفضت في نهاية الطريق إلى إجبار فرنسا على توقيع اتفاقية »إفيان« والجلاء عن الجزائر.

اليوم، وبعد ٥٧ سنة على استقلال الجزائر، ورغم العلاقات »الاستثنائي­ة« الرسمية القائمة بين البلدين، فإن باريس والجزائر لم يصلا بعد إلى مرحلة »التطبيع الكامل.« فالجزائر تطالب منذ عقود، فرنسا، ب »الاعتذار والتوبة « عن الجرائم، التي ارتكبها الاستعمار الفرنسي والآلام التي أنزلها بالجزائريي­ن. ومع تعاقب الرؤساء، بقيت باريس تصم أذنيها عن مطلب الجزائريين.

وخلال زيارته الرسمية للجزائر، خطا هولاند نصف خطوة في خطابه أمام مجلس الشعب بحديثه عن »الآلام« التي سببها الاستعمار. وخلال الحملة الرئاسية الأخيرة، وبمناسبة زيارته إلى الجزائر، ندد ماكرون ب »الجرائم ضد الإنسانية« التي ارتكبها الاستعمار الفرنسي للجزائر. ومن هنا، فإن خطوته بالأمس تأتي امتداداً لهذه الإدانة. والسؤال المطروح اليوم هو: هل سيستكمل ماكرون خطواته ويستجيب لمطالب الجزائر، كما عبر عنها الرئيس بوتفليقة في يوليو (تموز) ٢٠١٧ بمناسبة الذكرى ال٥٥ لاستقلال الجزائر، مشيراً إلى الآلام التي نزلت بشعبه، وإلى الجرائم التي ارتكبها المستعمر.

 ??  ?? الرئيس الفرنسي ماكرون برفقة ابنة موريس أودان في ضاحية بانولي أمس (أ.ف.ب)
الرئيس الفرنسي ماكرون برفقة ابنة موريس أودان في ضاحية بانولي أمس (أ.ف.ب)

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia