Asharq Al-Awsat Saudi Edition

على »طريق الحرير« إلى المستقبل

-

مع دخول العالم عتبة القرن العشرين، كانت العيون مشدودة أكثر فأكثر إلى الغرب، إلى »العالم الـــجـــد­يـــد«: أمــيــركـ­ـا الــتــي بـاتـت أرض الأحلام. الأوروبيون كانوا الـــــروا­د، ومـعـهـم كـثـر مــن رعـايـا الإمبراطور­ية العثمانية : »الرجل المــريــض.« حملت »التايتنيك« أصحاب لغات مختلفة، وعندما وقعت تلك الكارثة، كان من بين الـضـحـايـ­ا عــشــرات اللبنانيين، وكـــثـــر مــــن الــــعـــ­ـرب أهـــــل بــلــدان المـتـوسـط. انـدمـجـوا وأنـتـجـوا، وإذا كـان جـبـران كاتب »النبي« قد حقق تلك الشهرة التاريخية الـتـي انطلقت مـن مـديـنـة »وول ستريت« نيويورك، فإن الشهرة الـــتـــي ارتـــبـــ­طـــت بـــاســـم سـتـيـف جوبز السوري الأصل هي أيضاً طاغية.

بعد قــرنٍ ونـيـف مـن الـزمـن، تتجه العيون شرقاً إلى الصين، العملاق الآسيوي الذي أخرجته من سُباته نظريات رائدة رسمها دينغ شياو بينغ بدءاً من نهاية سبعينات الـقـرن المـاضـي، على أنــــقـــ­ـاض »الــــــثـ­ـــــورة الــثــقــ­افــيــة« و »عــصــابــ­ة الأربـــعـ­ــة « وثـورتـهـم الدائمة... لتبدأ القفزة الكبرى، وتــتــحــ­ول الــصــين إلـــى »الــعــالـ­ـم الـــجـــد­يـــد« الـــــواع­ـــــد. الاقــتــص­ــاد الثاني عالمياً، والبلد الأعلى نمواً بشكل مطرد ومنذ سنوات، الذي يـوفـر الــيــوم نـحـو ٩٠ فــي المـائـة من المنتجات التقنية في العالم. اليوم، تضع الصين نصب أعينها أن تكون الدولة الرائدة في مجال الذكاء الصناعي والتكنولوج­يا المتقدمة، وكل المؤشرات العلمية والـــدراس­ـــات الاقـتـصـا­ديـة تشي بأنها ستحتل بدءاً من عام ٢٠٣٠ الــريــاد­ة الاقــتــص­ــاديــة، لتصبح القوة الأولى، وتتجاوز الولايات المتحدة.

إلــى هــذا »الـعـالـم الـجـديـد« وصــــل ولــــي الــعــهــ­د الــســعــ­ودي الأمير محمد بن سلمان، متوجاً جـولـتـه الآســيــو­يــة الــتــي قـادتـه تـبـاعـاً إلـــى بـاكـسـتـا­ن والـهـنـد. ومــن هــنــاك، يـعـلـن أن الـجـزيـرة العربية تشكل جزءاً رئيسياً من »طريق الحرير،« حيث تتلاقى هذه المبادرة الجبارة مع »رؤية المملكة ٢٠٣٠.« لا مبالغة أبـداً، فالصين قبل الزيارة التي شكلت خطوة متقدمة على طريق بناء شـراكـات قوية في كل المجالات، كـــانـــت تــحــتــل المــرتــب­ــة الـثـانـيـ­ة بـــين أكـــبـــر عــشــر دول مــصــدرة لـلـمـمـلـ­كـة الـعـربـيـ­ة الـسـعـودي­ـة، وتـــحـــت­ـــل المــــرتـ­ـــبــــة الأولـــــ­ـــــى بـين الـــدول المــســتـ­ـوردة، حـيـث تؤمن الـسـعـودي­ـة الــيــوم ١٢ فــي المـائـة مـــــــن احــــتـــ­ـيــــاجــ­ــات الـــــصــ­ـــين لـــلـــطـ­ــاقـــة، والـرقـم إلـى ارتـفـاع بـــــعـــ­ــد الاتـــــف­ـــــاقـــ­ــات الـــــــج­ـــــــديـ­ــــــدة الــــتـــ­ـي وقعتها »أرامـكـو«. وما يثير الاهتمام أن إجمالي التبادل بين الصين وبلدان الــــــخـ­ـــــلــــ­ــيــــــج، وهــــــو نـــــــــ­شـــــــــ­اط حـــــديــ­ـــث نــســبــي­ــاً، بــلــغ ١٢٧ مــلــيــا­ر دولار عــام ٢٠١٨، فيما يقدر حجم التبادل مع كل بلدان السوق الأوروبـيـ­ة بـ١٤٠ مليار يورو، والكفة تميل شرقاً باطراد.

لقد شهدت السنوات الأخيرة ارتـقـاءً مـطـرداً فـي الـلـقـاءا­ت على مستوى القمة بين البلدين، ولهذا كثير مـن الـــدلالا­ت والأبــعــ­اد. في قــمــة الـــــــ٢­٠ مــؤخــراً، فــــــــي الأرجـــــ­ـنــــــتـ­ـــــين، الـــــــت­ـــــــقــ­ـــــى الأمــــــ­ـيـــــــر مـحـمـد بـــن سـلـمـان مـــــع الــــرئــ­ــيــــس شـي جــيــنــب­ــيــنــغ، وكـــــان الــرئــيـ­ـس الـصـيـنـي قــــــد زار الـــــريـ­ــــاض فـــي يــنــايــ­ر (كــانــون الــــثـــ­ـانــــي) مـــــن عـــام .٢٠١٦ وفـــــي شـهـر أغـسـطـس (آب) من العام نفسه، زار ولي الـعـهـد بـكـين. وفــي مــارس (آذار) ٢٠١٧، كانت زيارة خادم الحرمين الـشـريـفـ­ين المـلـك سـلـمـان بـن عبد العزيز للصين، وتشكيل اللجنة الـسـعـودي­ـة - الصينية الرفيعة، لتستضيف جـدة بعد أشهر من تـلـك الــزيــار­ة مـنـتـدى الاسـتـثـم­ـار الـــســـع­ـــودي - الــصــيــ­نــي. وتــأتــي الآن هذه الزيارة التي تتزامن مع نهج معلن للرياض أن السعودية ساعية لكي تكون وجهة عالمية مــــــقــ­ــــصـــــ­ـودة، وقــــــــ­ـــوة إنـــتـــا­جـــيـــة واســـتـــ­ثـــمـــار­يـــة دولـــــيـ­ــــة، لـتـنـجـز الزيارة خطوات بعيدة على طريق إقامة شراكة استراتيجية، تستند إلى المنافع الاقتصادية للبلدين، مبرزة قيمة اقتصادية هي الأعلى، ومنطلقة من قناعة أن الشراكة مع الصين حجر زاويــة فـي المشروع الــــســـ­ـعــــودي لــتــحــق­ــيــق الــتــحــ­ول الأكثر عمقاً في تنويع الاقتصاد، وإرساء ركائز الاقتصاد الحديث، ولا سيما تعزيز اقتصاد المعرفة، على طريق وصول »رؤية ٢٠٣٠« إلى أهدافها. إنها مرحلة المواءمة بـين الـرؤيـة الـسـعـودي­ـة و»طـريـق الحرير « التي ستجعل من الصين جارة لكل البلدان والشعوب.

المــــحــ­ــادثــــا­ت بــــين بــــن المــلــك ســلــمــا­ن والـــرئــ­ـيـــس جـيـنـبـيـ­نـغ نـــاقـــش­ـــت كــــل شـــــــيء، اســـتـــن­ـــاداً إلـى أسـس متينة مـن التنسيق والـــــتـ­ــــعـــــ­اون الـــســـي­ـــاســـي، مـمـا جعل محاولات بعض الأطـراف الدولية التضييق على المملكة غير ذات جـدوى، وربما تنقلب الـنـتـيـج­ـة عــلــى هــــذه الأطـــــر­اف، فــالــصــ­ين الـــيـــو­م قــلــب الــعــالـ­ـم، والـسـعـود­يـة هـي قـلـب المنطقة. نـــعـــم، كـــانـــت هـــنـــاك مـنـاقـشـا­ت للحرب في اليمن، وسواها من قضايا الشرق الأوسط، المنطقة التي أشعل النار فيها طموحات حـــــكـــ­ــام طــــــهــ­ــــران بـــالـــس­ـــيـــطــ­ـرة، ويتابعون قـيـادة أكبر مشروع دمـار أين منه ما حمله هولاكو إلى الشرق العربي؛ واحدٌ أغرق دجــلــة بـكـتـب مـكـتـبـات بــغــداد، والــــثــ­ــانــــي أتـــــــى عـــلـــى الــحــجــ­ر واقـتـلـع الـبـشـر، ويـتـابـع بحقدٍ غير مسبوق أكبر عملية تغيير ديموغرافي!!

»اطـــــــل­ـــــــب الـــــعــ­ـــلـــــم ولــــــــ­ــو فــي الصين،« لكن بعد اليوم سيكون تـعـلـم الـصـيـنـي­ـة أمـــراً مـتـاحـاً في السعودية، بعد إقرار خطة لإدراج الـلـغـة الـصـيـنـي­ـة كـمـقـرر دراســـي فـــي جـمـيـع المـــراحـ­ــل الـتـعـلـي­ـمـيـة فـي المـــدارس والـجـامـع­ـات. قوبل الــــقـــ­ـرار بــصــخــب إيـــجـــا­بـــي عـلـى وســائــل الــتــواص­ــل الاجـتـمـا­عـي، عــكــس اهــتــمــ­ام الــفــئــ­ات الـشـابـة ومواكبتهم هذا التطور، بوصفه جـــــــزء­اً مــــن نـــهـــج يـــريـــد تـحـقـيـق شـــراكـــ­ة اســتــرات­ــيــجــيـ­ـة شــامــلــ­ة، ويـسـعـى لـتـمـتـين مـنـحـى زيـــادة وتـعـمـيـق الـــروابـ­ــط الاقـتـصـا­ديـة والـثـقـاف­ـيـة مــع الــصــين، لتعميق التنوع الثقافي وفتح آفاق جديدة وإقامة جسر للقاء مع الشرق على »طريق الحرير« إلى المستقبل.

 ??  ?? حنا صالح
حنا صالح

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia