مولانا محمد علي وتحريف أطروحة دينسون حول الدين والحضارة
إسـراف محمد علي في الحط من شأن النهضة الأوروبية ونسبة كل الشرور والآثام إلـيـهـا إلــى حـد تشبيهها بـعـهـود الهمجية الأولـــى فـي تـاريـخ الـبـشـريـة، سببه أن تلك النهضة قامت على أسـاس علماني وليس على أسـاس ديني. وأنها قامت في أوروبـا وليس في ديار الإسلام.
فـــــإن تــقــم تــلــك الــنــهــضــة عــلــى أســــاس عـلـمـانـي، فـهـذا يـخـالـف الـفـرضـيـة الـتـي هو يؤمن بها إيمان الإنسان بالسنن الحتمية والمحتومة، وهي أنه ــ كما قال ــ: »من الثابت أن المـدنـيـة الإنـسـانـيـة الـتـي ننعم بـهـا الآن، ليست إلا من صنع الدين، فالدين هو الذي استطاع أن يوجد حالة من المدنية، كان لها فضل إنقاذ النوع الإنساني من شر التمزيق والانقراض المرة تلو الأخرة.«
وقــيــام تـلـك الـنـهـضـة فــي أرض ً أوروبـــا ولــيــس فـــي ديـــــار الإســـــــلام، يــعــتــبــره خـطـأ جـغـرافـيـاً وتـاريـخـيـاً وفــكــريــاً، لأن الإســـلام وحده ــ كما يعتقد ــ أساس كل نهضة ورقي مــادي وحـضـاري وروحـــي، فـكـان الأولــى أن تنشأ تلك النهضة في ديار الإسلام، ليكون الإسلام هو حاضنتها الدينية.
قلت في المقال السابق عن مولانا محمد علي: مما سبَّ التقدم والرقي الأوروبي فيه أنــه عــاد بـالإنـسـان إلــى الـعـصـور الهمجية الأولى. وقد أكد هذه السبة مرتين في كتابه. وفـي مـرة ثالثة أكـد »أن البشرية توشك أن ترجع ثانية إلى ما كانت عليه من الهمجية إذ القبائل تتحارب وتتناحر، لا قانون ولا نــظــام، أمــا الـنـظـم الـتـي خلفتها المسيحية فكانت تعمل على الفرقة والانهيار بدلاً من الاتحاد والنظام .«
وأقول في هذا المقال معتذراً: »إني وقعت فيما نقلته عنه في خطأ، وها أنا ذا أصحح خطأي .«
اتهام مولانا محمد علي التقدم والرقي المـــــادي الأوروبـــــــي أنـــه عـــاد بــالإنــســان إلــى عـصـور الـهـمـجـيـة الأولــــى قــال بــه مـرتـين لا ثلاث. وما نقلته عنه ووضعته بين علامتي تنصيص كانت الأسطر ما قبل الأخيرة من نص اقتبسه، ليعزز به نظريته بأن الإسلام هـو الـــذي أوجـــد روابـــط الأخـــوة بـين جميع شعوب العالم، ومحا الفوارق بين الأجناس والألوان واللغات والحدود الجغرافية وبين العقائد المختلفة، وأنـه هو القوة الوحيدة الـتـي تـؤلـف بـين الإنـسـانـيـة، وأنــه هـو الـذي حـوى الأســس المدعمة للمدنية، فاستطاع بها أن يعيد للإنسان مدنيته المفقودة. إذ قال بعدها: وهذا ما يقوله ج.ه. دينسون في كتابه: Emotion as the Basis of Civilization (العواطف كأساس للحضارة:( »في القرنين الخامس والسادس كان العالم المتمدين على شـفـا جــرف هــار مـن الـفـوضـى، لأن العقائد التي كانت تعين على إقامة الحضارة كانت قــد انــهــارت، ولــم يــك ثــم مــا يعتمد بــه مما يقوم مقامها، وكـان يبدو إذ ذاك أن المدنية الـكـبـرى الـتـي تـكـلـف بـنـاؤهـا جـهـود أربـعـة آلاف سنة مشرفة على التفكك والانـحـلال، وأن البشرية توشك أن ترجع ثانية إلى ما كانت عليه من الهمجية، إذ القبائل تتحارب وتتناحر، لا قانون ولا نظام، أما النظم التي خلفتها المسيحية فكانت تعمل على الفرقة والانهيار بدلاً من الاتحاد والنظام، وكانت المدنية كشجرة ضخمة متفرعة امتد ظلها إلــى الـعـالـم كـلـه، واقـفـة تـتـرنـح وقــد تسرب إليها العطب حتى اللباب، وبين مظاهر هذا الفساد الشامل ولد الرجل الذي وحد العالم جميعه .«
بـوسـعـي الآن بـعـد أن صـحـحـت الغلط الـــذي وقـعـت بــه أن أشـــرح الـنـص المقتبس وأضــعــه فــي سـيـاقـه الـصـحـيـح فــي تنظير مولانا محمد علي.
رأى ج.هـــــ. ديـنـسـون أن الإمـبـراطـوريـة الرومانية الجامعة والواحدة والمتحدة في رومـا وفـي رومـا الجديدة (القسطنطينية) التي بلغت في زمانها أوج الرقي والمدنية والـــــحـــــضـــــارة، والـــــتـــــي كــــانــــت أعــــظــــم قـــوة سـيـاسـيـة وعـسـكـريـة واقـتـصـاديـة وثقافية وحضارية في العالم، والتي ضمنت لجزء كبير منه بسبب حسن إدارتـهـا في تسيير أمـــور الــدولــة وشـــؤون المـجـتـمـعـات الـواقـعـة تـحـت سـيـطـرتـهـا مــن رومــــان وغـيـر رومــان وبسبب عظمة قانونها، الاستقرار السياسي والسلام والنماء والازدهـار والتطور، أقول رأى أنــــه اعــتــرتــهــا فـــي الــقــرنــين الــخــامــس والــســادس، مخاطر جـمـة، وهـو هنا يشير إلـى انقسام هـذه الإمـبـراطـوريـة إلـى غربية وإلــى شـرقـيـة، وإلــى انـحـلال الإمـبـراطـوريـة الرومانية الغربية وسقوطها وإلى الضعف الذي دب في أوصال الإمبراطورية الرومانية الـشـرقـيـة، وإلــــى غـــــزوات الــجــرمــان والــقــوة والهون الموسومة بالهمجية، وإلـى حروب الإمـبـراطـوريـة الفارسية مـع الإمـبـراطـوريـة الــرومــانــيــة الــشــرقــيــة، وإلـــــى الانــقــســامــات المسيحية المذهبية. هذه المخاطر، وتحديداً الحروب الداخلية والحروب الخارجية كانت تــنــذر بـــأن المــدنــيــة الــكــبــرى الــتــي اسـتـغـرق بناؤها أربـعـة آلاف سنة، وورثتها المدنية الرومانية، أشرفت على التفكك والانحلال، وأن البشرية فـي ذيـنـك القرنين أوشـكـت أن ترجع ثانية إلى ما كانت عليه من همجية ووحشية قبل أربعة آلاف سنة.
ورأى أن الديانة المسيحية التي اعتنقتها الإمبراطورية الرومانية لم تكن عاملاً يساعد على الوحدة والاتحاد، بل كانت من عوامل الفرقة والتفتيت من الداخل. وهو هنا يشير إلى المجادلات اللاهوتية التي قسمت العالم المسيحي إلى طوائف دينية.
وفــي خـاتـمـة تـوصـيـفـه لـهـذيـن القرنين في تاريخ الإمبراطورية الرومانية، اللذين صـــورهـــمـــا بــوصــفــهــمــا عــــصــــراً مــطــبــوعــاً بـــالاضـــطـــراب والـــصـــراعـــات والانــقــســامــات والحروب الداخلية والخارجية، ذكر أنه في هـذا العصر الـذي عمّه الفساد الشامل ولد النبي العربي محمد بن عبد الله الذي أقام وحدة دينية وسياسية وعسكرية وثقافية وحضارية عالمية جديدة.
هـذا مـا أفهمه مـن الـنـص الــذي اقتبسه مـــولانـــا مــحــمــد عــلــي مـــن ج.هــــــــ. ديــنــســون واقتضب خاتمته لغاية غير موضوعية.
مـولانـا مـحـمـد عـلـي اسـتـعـاد توصيف ج.هـ. دينسون للمدنية الرومانية في القرنين الخامس والـسـادس الميلاديين وطبّقه على المـدنـيـة الـغـربـيـة فــي الـحـربـين الـعـالمـيـتـين، وقـــال بــأن مـدنـيـتـهـا أشــرفــت عـلـى الانــدثــار والاضــمــحــلال. فـاتـهـامـه لـلـمـدنـيـة الغربية بـالـهـمـجـيـة كـــان مـسـتـمـداً مــن اتــهــام ج.هــــ. ديـنـسـون حــال الـعـالـم بالهمجية فـي ذينك القرنين، وإن كان الرجل لم يقطع بارتداده إلـى الهمجية، كما فعل مولانا محمد علي في حكمه على المدنية الغربية، فهو قد قال: إن البشرية (توشك) أن ترجع ثانية إلى ما كانت عليه من الهمجية.
مـــــولانـــــا مـــحـــمـــد عـــلـــي اســــتــــعــــاد ذلـــك الـتـوصـيـف لـحـال الـعـالـم فـي ذيـنـك القرنين وطـبـقـه عـلـى المـدنـيـة الـغـربـيـة وعــرض على المسيحية وعلى أوروبا وأميركا وعلى العالم أجمع، مع بداية الحرب العالمية الثانية في كتابه الــذي أنـجـزه باللغة الأرديـــة فـي عام ١٩٤٢. مشروعاً دينياً لإنقاذ الغرب وإنقاذ البشرية من أهـوال الحرب العالمية الثانية، وهــو أن يـكـون الإســـلام هـو أســـاس الـنـظـام الـعـالمـي الـجـديـد بـعـد انـتـصـار دول المـحـور على دول الحلفاء.
العجيب أنه بعد انتصار دول الحلفاء على دول المحور، ودحر النازية والفاشستية، واتفاق الدول الكبرى ومعهم العالم بأجمعه على نظام عالمي ثان أو جديد، لم ييأس من إلحاحه بالمطالبة بتبني مشروعه الديني، لــبــنــاء نــظــام عــالمــي جـــديـــد، فـــأضـــاف هــذه الكلمات إلى مقدمة الفصل الأول من كتابه الذي أنجز ترجمته إلى اللغة الإنجليزية في عام ١٩٤٦ :
»وبينما لا نلمح أي بادرة عن خبو هذا الـضـريـم المـتـأجـج، إذا بـنـا نـلـمـح فــي الأفــق إمـارات حـرب ثالثة، ومـن يـدري؟ فقد يكون من نصيب هذه الدنيا حرب رابعة أو خامسة هي أشد هـولاً من سوابقها، أهـذه الحروب هي الـدروب التي تنتهي بالعالم إلى نظام عالمي أفضل .«
تتعدى استفادة مولانا محمد علي من كـتـاب ج.هــــ. ديـنـسـون: (الـعـواطـف كأساس للحضارة) مـن مجرد اقتباس نـص قصير مــنــه لــدعــم نـظـريـتـه حــــول الإســــــلام وحـــول طبيعة صلة الدين بالمدنيات أو الحضارات إلى الاستفادة من بعض أفكار الكتاب. فعلى سبيل المثال كلامه الذي اقتبسته أعلاه: »من الـثـابـت أن المـدنـيـة الـتـي ننعم بها الآن.«... والــــذي تـتـمـتـه: »فـإنـنـا إذا مــا رجـعـنـا إلـى تاريخ المدنية الإنسانية في الشعوب، رأينا أنه كلما بدأت المدنية في التفكك والانحلال، ظهر وازع ديني جديد، فمنعها التردي في هاوية الدمار التام.«
هـــذه فــكــرة رئـيـسـيـة فــي ذلـــك الـكـتـاب، والمشكلة الكبرى ليس أنه سطا عليها ولم ينسبها إلــى صـاحـبـهـا، وإنـمـا فـي تلاعبه بــهــا وتـحـريـفـهـا تـحـريـفـاً شـنـيـعـاً. فـحـول طبيعة صلة الدين بالمدنيات أو الحضارات يـرى ج.ه. دينسون أنـه فـي كـافـة مراحلها، كــان للدين دور كبير وفـعـال فـي تطورها، وأن الـديـن سـواء أكـان بدائياً أو متقدماً له دور فـي الـحـضـارات الـقـومـيـة الإثـنـيـة وفـي الـــحـــضـــارات الأكـــثـــر شــمــولــيــة فـــي عـمـلـيـة توحيدها واتحادها من خلال خلق عواطف مـشـتـركـة، أو قـد يـكـون لـه دور مـعـاكـس في بث عوامل الفرقة والانقسام. ج.هـ. دينسون لا يعنيه في أطروحة كتابه صـدق العقائد والأديــان أو تقديم وصـف لها، وإنما الذي يعنيه دورها في تماسك لحمة الحضارات بمختلف أنماطها.
فــالــحــضــارة عــنــد ج.هــــــــ. ديــنــســون لا تتطور إلا إذا عمل عدد كبير من البشر مع بعضهم بعضاً لغايات مشركة. والاتـحـاد يحصل بينهم لـيـس ـــ فـقـط ـــ بسبب أفـكـار مجردة، بقدر ما هو يحصل بسبب مشاعر جــمــاعــيــة، بــحــيــث تـكـتـسـب الأفــــكــــار بـعـداً عاطفياً وتصبح معتقدات ومحفزات. ومن منظوره أن العوامل العاطفية، وخصوصاً الدينية، متغلغلة فـي مناحي الحضارات كـافـة. وكـمـا نــرى، فــإن عـنـوان كـتـابـه يقول بـالـعـواطـف ــــ ولــيــس بـــالأديـــان أو الــديــن ــ كأساس للحضارة.
تلاعبه بفكرة الرجل هو في ادعائه أن المدنية الإنسانية، أو بالأحرى المدنية الغربية التي كان ينعم بها الناس في المنتصف الأول من القرن الماضي هي من صنع الدين، وأن الدين هو الذي استطاع أن يوجد حالة من المدنية، كان لها فضل إنقاذ النوع الإنساني من شر التمزيق والانقراض المرة تلو الأخرى. وتلاعب أيضاً بالغائيات الدينية، فلا يوجد ديــن مـوحـى بـه مـن الـلـه أو غير مـوحـى به، قال إنه جاء منقذاً ومخلصاً الحضارات من عوامل التفكك والانحلال ومنقذاً ومخلصاً النوع الإنساني من شر التمزق والتشرذم والخلافات والصراعات والحروب. فالأديان كـلـهـا جــــاءت لـلـخـلاص الــديــنــي والــروحــي وليس للخلاص الحضاري أو المدني. فأديان الـوحـي الإلـهـي بعث أنبياؤها لأن الإنسان عـصـى الـلـه. والأديــــان الأرضــيــة جـــاءت لأن الإنسان انحرف عن النهج القويم، كما في الكنفوشوسية والطاوية ولانفصال الإنسان عن حقيقته، كما في الهندوسية والبوذية. وللحديث بقية.