Asharq Al-Awsat Saudi Edition

الإنسانيّات في خطر

-

هــــــــذ­ا الــــعـــ­ـنــــوان المـــــــ­ثـــــــيـ­ــــــر لــــلــــ­خــــوف والقلق، الـذي يحمل رسالة طلب النجدة والاســـتـ­ــغـــاثــ­ـة تــكــرر على ألسنة الكثير من أســـاتـــ­ذة الـجـامـعـ­ات العربية في الندوات الـتـي تعقد مـن حين

ّ إلى آخر. إنها جملة تـخـتـصـر تشخيصاً كـــــامــ­ـــلاً فـــــي أقــــــل مـا يـــمـــكـ­ــن مـــــن كــلــمــا­ت وبكثير من الحرقة.

أولاً مـــــــاذ­ا يــعــنــي الــــقـــ­ـول إنّ الإنسانيات في خطر؟ وهل الخطر هو نفسه في كل البيئات العلميّة في العالم؟ وما تداعيات أن تكون الإنـسـانـ­يـات فـي خطر علينا نحن تحديداً معشر العرب والمسلمين؟

تـعـانـي الــيــوم الاخـتـصـا­صـات الإنـــســ­ـانـــيـــ­ة مــثــل الــلــغــ­ة الــعــربـ­ـيــة ومــــــــ­ادة الــفــلــ­ســفــة بــشــكــل خــــاص، وأكــــثــ­ــر مــــن بــقــيــة الــتــخــ­صــصــات الإنسانية الأخرى، من عزوف كبير فـــي صـــفـــوف الــطــلــ­بــة، وأصــبــحـ­ـت اخـتـصـاصـ­ات شبه مـهـجـورة، إلى درجة أن هناك أقساماً للفلسفة في جامعاتنا بـالـكـاد نجد فيها عدد الـطـلـبـة يـتـجـاوز أصــابــع الـيـديـن. وهــو مـا يعني أن أقـسـام الفلسفة تتجه نحو الاندثار، مع ما يعنيه ذلـــك مــن مــأســاة عـلـمـيـة حـقـيـقـيـ­ة، وذلك من منطلق أن افتقار الطالب في تكوينه إلى الفلسفة يجعل منه رأساً محشواً بالمعلومات من دون قدرة على حسن التفكير والتساؤل والفهم النقدي. أيضاً تعرف اللغة العربية اليوم ضعفاً لدى صفوف الــطــلــ­بــة بـشـكـل عـــــام، عـــــلاوة عـلـى تراجع عـدد الذين يختارون اللغة الـــعـــر­بـــيّـــة كــتــخــص­ــص لمـرحـلـتـ­هـم

ّ الجامعيّة، رغم أنها اللغة الرسمية للبلدان العربية.

غير أن انسداد آفاق هذه الشعب فـي أســـواق الـشـغـل أدى إلــى نفور الطلبة منها، وكأنها اختصاصات ميتة انتهت صلاحيتها؛ خصوصاً أن استراتيجية غالبية دولـنـا في حـمـايـة الإنــســا­نــيــات مــن الانــدثــ­ار ضعيفة جــداً ولا تـقـوم عـلـى رؤيـة وعمق إدراك.

والأمـــر لا يـتـصـل فـقـط باللغة الـعـربـيـ­ة الـلـغـة الأم، بــل شـمـل في تــــونـــ­ـس مـــثـــلا الـــلـــغ­ـــة الــفــرنـ­ـســيــة الـتـي تـعـانـي مـن ضـعـف فـي مـرود الــتــلام­ــيــذ، رغـــــم حــجــم الــســاعـ­ـات المـــخـــ­صـــصـــة لــــهــــ­ا فــــــي الــــبـــ­ـرامــــج الدراسيّة. فالوضع جد خطير، لأنه يـمـس جــودة خـريـجـي جامعاتنا: فـــأي جــــودة يـمـكـن الــحــديـ­ـث عنها والـــحـــ­ال أن مــســتــو­ى طــلابــنـ­ـا فـي اللغات ضعيف، وتعوزهم القدرة عــلــى الــتــعــ­بــيــر شــفــويــ­اً وكــتــابـ­ـيــاً

ّ بشكل سليم، وكأنهم دون مستوى الـجـامـعـ­ة. وهــذا طبعاً مـفـهـوم لأن خـــريـــج الــجــامـ­ـعــة بــالــكــ­اد يـمـتـلـك مـسـتـوى الـبـاكـال­ـوريـا أو الثانوية العامة عند تخرجه فـي الجامعة، إذ إن صلته بمادتي اللغة العربية والــفــلـ­ـســفــة انــقــطــ­عــت مـــع الـتـوجـه الجامعي.

لــــــقــ­ــــد فـــــهـــ­ــمـــــت الـــــجــ­ـــامـــــ­عـــــات الأوروبــي­ــة والـغـربـي­ـة أهـمـيـة اللغة والفلسفة، وجعلت منهما مادتين أساسيتين تـرافـقـان الطالب مهما كـــــان اخـــتـــص­ـــاصـــه، بـــمـــا فــــي ذلـــك الاخـتـصـا­ص الـتـجـريـ­بـي المـحـض، فــالــتــ­كــويــن يــشــمــل ذات الــطــالـ­ـب بشكل عــام، وتراعي في معرفته الإحاطة بالأبعاد الرئيسية.

الــــــــ­ـــســــــ­ـــــؤال: هــل نــســتــط­ــيــع تــــجــــ­اوز الإنــــــ­ســــــانـ­ـــــيــــ­ــات فــي عـــمـــلـ­ــيـــة الـــتـــك­ـــويـــن المعرفي لطلبتنا؟

أليست أساسية وإلـــــــ­ــــــزامـ­ــــــــــ­ــيّــــــــــ­ـــة فــــي التكوين؟

طـــــــبـ­ــــــعـــ­ــــا نــــحــــ­ن بـصـدد طـــرح أسئلة استنكارية، الغرض منها محاولة تقليب السؤال على أكثر من جهة. والــلافــ­ت لـلانـتـبـ­اه أنــه رغــم إدراك الجميع لـلأزمـة، فـإن الاحتجاج لا يــتــجــا­وز صـيـحـات فـــزع نسمعها هـنـا وهـنــاك فــي أوقـــات مـتـبـاعـد­ة، وتبدو صيحات معزولة لا صدى لــهــا. جــامــعــ­ات تـعـيـش الأزمـــــ­ة من دون أن تفكر في عقد مؤتمر دولي حول واقع تدريس الإنسانيات في الجامعات العربية اليوم بالأرقام، ومقاربة هـذا الـواقـع كمياً ونوعياً وتــوصــيـ­ـفــه بــشــكــل يــســاعــ­د عـلـى الـتـحـلـي­ـل وبـــنـــا­ء الاســتــن­ــتــاجــا­ت، ومنها رسم استراتيجيا­ت الإنقاذ.

مــــاذا سـيـبـقـى لــنــا إذا فـرطـنـا أيـــضـــا فــــي الإنـــســ­ـانـــيـــ­ات؟ فـنـحـن خــارج الإســهــا­م العلمي مـن جهة، ونعاني من أزمة ثقافية كبيرة من جهة ثانية، لعل من أماراتها ظهور الـحـركـات التكفيرية »الـجـهـادي­ـة«. فــــهــــ­ذه الـــــحــ­ـــركـــــ­ات، فـــــي بـــعـــد مـن أبــــعـــ­ـادهــــا، هــــي تــعــبــي­ــر عــــن أزمــــة الثقافة العربية وأزمــة مجتمعات إسلاميّة. ولا نخالنا نبالغ إذا قلنا إنّ ظـهـور الإرهـــــ­اب وتـنـامـيـ­ه هما نـتـاج تـراجـع جـاذبـيـة الإنسانيات في مقررات التعليم العالي العربي.

مــــن جـــهـــة ثـــانـــي­ـــة، مــــا فـــائـــد­ة الـحـديـث عـن ضـــرورة نـقـد الثقافة العربية ونقد العقل العربي ومادة الــفــلــ­ســفــة مــهــمــش­ــة، وخــريــجـ­ـوهــا مــــن ســــنــــ­وات طــويــلــ­ة مـــثـــال جـيـد للطلبة الذين لا يحسنون اختيار التخصص الذي يقيهم شر البطالة الـطـويـلـ­ة، وأبـــــوا­ب الـعـمـل المـغـلـقـ­ة والفرص المنعدمة؟

هــنــاك انــفــصــ­ام بــين مــا نـدعـو إلـــيـــه وآلــــيــ­ــات تــحــقــي­ــق مـــا نــدعــي أنـنـا نـصـبـو إلــيــه. فـالمـنـطـ­ق يـقـول بإلحاح إن تعميم تدريس الفلسفة الـتـي وحــدهــا قــــادرة عـلـى تشكيل العقل تشكيلاً منفتحاً ومـرنـاً هو المـــلاذ الطبيعي لثقافتنا المنهكة والمـــحــ­ـتـــاجـــ­ة فـــعـــلا إلــــــى مــراجــعـ­ـة وتعميق وشـذب. فمن يدير ظهره لأصـــل الـعـلـوم الــتــي هــي الفلسفة يعني أن علاقته بالعلوم ستكون سطحية ومــن الــخــارج، وتلقينية لا غير، وهـذا قد ينتج اختصاصاً مـــعـــقـ­ــولاً، ولــكــن لا يـنـتـج إنـسـانـاً ومواطناً واختصاصياً في مجاله قادراً على الإبداع والإضافة.

ما يجب أن يتركز في الذهن هو أنه لا بناء للإنسان وللمعرفة خارج الإنسانيات، فهي منه وله، وحاجته لـهـا كـحـاجـة الــكــائـ­ـن الــحــي لـلـمـاء ولـلـحـرار­ة والــغــذا­ء. والإنـسـان­ـيـات بتراكمها الهائل المدهش الدال على عظمة الإنسان دليل على ذلك.

مـــن هــــذا المــنــبـ­ـر الـــجـــا­د نـدعـو إلـى عقد مؤتمر دولــي حـول راهـن الإنــســا­نــيــات ومــفــاصـ­ـل تــأزمــهـ­ـا، نــســتــأ­نــس فــيــه بـــتـــجـ­ــارب ألمــانــي­ــة وإنـجـلـيـ­زيـة وفـرنـسـيـ­ة فـي حماية الإنسانيات في جامعاتهم.

 ??  ?? د. آمال موسى
د. آمال موسى

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia