نيكولا ماتيو لـ : مهموم بقضايا الطبقة الوسطى التي قضت عليها العولمة
الروائي الفرنسي الفائز بجائزة غونكور حريص على قراءة الشعر
القاهرة: داليا عاصم * بداية نهنئك على فوزك بجائزة غونكور الرفيعة، هل كنت تتوقع الفوز؟ وما الذي تضيفه هذا الجائزة والجوائز عموماً لأي كاتب ؟
- أشكرك. في الحقيقة، لم أكن أتوقع هذه الحفاوة بالرواية، فقد كنت أكتب عن مراهقتي فقط وعن فترة التسعينيات. لم أكـن أتوقع الفوز خاصة مع التنافس الشديد عـلـى الـسـاحـة الأدبــيــة الفرنسية، فهناك رواج كبير في النشر، ففي الصيف المـاضـي فقط صــدرت ٦٠ روايــــة ثــم صـــدرت ١٨٠ روايــــة مع بداية الموسم الأدبـي في سبتمبر (أيـــــلـــــول). هــــذا الــنــشــر المـــطـــرد لا يقابله إقبال قرائي من الجمهور، إذ انـخـفـضـت نــســب الـــقـــراءة في عصرنا الرقمي هـذا؛ لكن بفضل الـجـوائـز تحظى الأعـمـال الأدبـيـة بـــمـــقـــالات نــقــديــة فـــي الــصــحــافــة والمواقع الإلكترونية مما يعطيها الـحـيـاة لـبـعـض الــوقــت. وبـعـد أن فـزت بــ »غـونـكـور« حققت روايـتـي مبيعات وصلت إلى ٥٠ ألف نسخة خلال أسبوع. * إذن ما قيمة الأدب الآن في ظل كل هذا الزخم المعلوماتي والترفيهي؟
- الأدب يعزز الشعور بالحرية والانطلاق ويطرح أمامنا حيوات أخـــــــرى، وربـــمـــا يــكــشــف جــوانــب مظلمة من حياتنا. وهو أداة هامة لـنـقـد المـجـتـمـع وكـشـف سلبياته، حـــاولـــت أن أحـــــذو حــــذو فـلـوبـيـر وبيرك في نقدهم للمجتمع. ومع ذلــك وأنــا أكـتـب لـم أفـكـر فـي الأثـر الــــــذي تــتــركــه روايــــتــــي بـــل أكـتـب للقراء. * كـيـف جـــاءت لــك فـكـرة روايـتـك »أولادهم من بعدهم« التي تبدو بسيطة، لكنها كما نرى تحمل في طياتها عمقاً
وتبشر بعودة قوية للتيار الواقعي في الأدب الفرنسي؟
- كــــان هـــدفـــي الــرئــيــســي هـو كتابة رواية عن فترة المراهقة التي تغيرت تماماً، وكـل طموحي ربط الـروايـة بـالـواقـع المـعـاصـر. حينما زرت شــــمــــال فـــرنـــســـا وشــــاهــــدت مصنعاً مغلقاً وسمعت من شخص هناك حكايته انتابني الحنين لتلك الفترة. راودتني رغبة جامحة في رسم بورتريه عن تلك الحياة التي عشناها كمرحلة تحضير لاجتياح الـعـولمـة. لا أدعــي هنا أنني أتبنى منهجا أو مدرسة معينة في الكتابة لـكـن أتـمـنـى أن يتحقق ذلـــك. فمن أراهم حولي من مراهقين انسحقوا فـــي الــتــعــامــل مـــع الـتـكـنـولـوجـيـا والهواتف الذكية والشاشات، في حين كانت مراهقتنا مختلفة تماماً، وكـانـت تعني الانــطــلاق والأحــلام والــــطــــمــــوحــــات. أثـــــنـــــاء كــتــابــتــي وجـــــــدت أن فـــتـــرة الــتــســعــيــنــيــات هـامـة جــداً فـي الـحـيـاة السياسية والاجــــتــــمــــاعــــيــــة لــــيــــس فــــقــــط فــي فرنسا، بل في العالم كله. ولم أكن أدري أن الرواية ستتطرق لكل هذه التفاصيل والأحداث المصيرية في تاريخ العالم منها: سقوط حائط بـرلـين ونـظـريـة صــراع الـحـضـارات لصمويل هنتنغتون، ونهاية العالم لـفـرانـسـيـس فـــوكـــويـــامـــا... كـانـت الـكـتـابـة رحـلـة مليئة بالتحديات لرصد التحولات والتغيرات التي فـرضـتـهـا تـلـك الـحـقـبـة عـلـى حياة الأسـر الفرنسية وكـان بالطبع من الـــضـــروري الـتـطـرق لـحـيـاة طبقة العمال التي تأثرت كثيراً بموجة العولمة وتوقف المصانع التي أدت لانهيار عدد كبير من الأسر ودفعت عــدداً مـن المـراهـقـين لمحاولة الفرار مـن جحيم الـعـيـش فـي الـضـواحـي المهمشة.
* ألـم يكن لديك مخطط للرواية؟ هل تمرد أبطالها المراهقون على نصك أيضاً؟
- الـروايـة تحدثت عن التمرد والــــحــــقــــد والــــكــــراهــــيــــة والــــحــــب، ووجـــدت الـخـيـوط تتشابك أثـنـاء الـــكـــتـــابـــة. لـــم أصـــنـــع إطـــــــاراً وإلا لكنت كمن يكتب أطروحة علمية. كــانــت أمــامــي الــبــدايــة والـنـهـايـة وكــنــت أنـــــوي ألا تــكــون الـنـهـايـة ورديــة كما تتجسد فـي كثير من الأعمال السينمائية بل مرت حياة كـــل أبـــطـــال الــعــمــل بــالإحــبــاطــات وتــكــســرت الأحــــــلام عــلــى صـخـرة الواقع، فالحياة طريق به عثرات أحـيـانـاً، وبـــدأت الــروايــة مـن لقاء أنتوني بطل الرواية ذي الـ١٤ عاماً مع صديقة في ليلة صيفية بوادي فــي شـــرق فـرنـسـا، ثــم قـصـة حبه مـع ستيف الـتـي لا تنتمي لنفس طبقته الاجتماعية. * هل كان اختيار فصل الصيف عـبـر مــراحــل زمـنـيـة تـمـثـل لـــ٨ سـنـوات اختيارا رمزيا؟
- في اعتقادي أن اختيار الفترة الزمنية للعمل الـروائـي مهم جداً بقدر أهمية المكان والشخصيات، فاختيار فصل الشتاء أو الصيف ينعكس بالضرورة على سلوكيات الشخصيات ويتحكم في الأحداث والـتـفـاصـيـل الــتــي حــرصــت على تـنـاولـهـا بـدقـة شــديــدة، كـنـت أود فـــقـــط تــــنــــاول ذلــــــك الـــجـــانـــب مـن المـراهـقـة الـتـي عـشـتـهـا، وحـاولـت قدر الإمكان وصف حالة الاغتراب التي يمر بها المراهقون والتحول فـي نظرتهم للحياة مـن حولهم، والـتـحـول فـي نـظـرة أسـرهـم لهم، كائنات أصبحت مغايرة متمردة فلم يعودوا أطفالاً أو شباباً واعين يمكنهم الحكم بموضوعية على الأشــيــاء. تـدعـو الــروايــة للتفكير في تأثير الوقت علينا فهو مفتاح التغير في الأحداث والشخصيات والمـــلامــــح الــشــكــلــيــة والــجــســديــة وتــتــغــيــر مــعــه الأفــــكــــار وتـتـضـح الأوهام. * كم استغرقت منك الرواية؟
- اسـتـغـرقـت عــامــين ونـصـف عـكـفـت فـيـهـا عـلـى الـكـتـابـة بشكل مكثف مع ظهور أول ضوء للشمس قـبـل الــذهــاب لـعـمـلـي، كـنـت أحـدد لنفسي كتابة ألف كلمة يومياً. * فـــي الــــروايــــة اســتــعــت بتقنية الــراوي والـحـوار أيضاً وجـاء أسلوبك شــبــة تـوثـيـقـي بــالــصــوت والـــصـــورة حتى يكاد القارئ يسمع أغاني ويتني هــيــوســتن وســيــلــين ديــــــون ومــايــكــل جــاكــســون تـــــدور فـــي الــخــلــفــيــة، هـل قصدت أن تكون الرواية تأريخاً أو ربما
(مرثية) لفترة التسعينيات؟
- لا لـم أقـصـد تـحـديـداً... هي روايــــــة بـنـائـيـة تـكـويـنـيـة حـافـلـة بالتفاصيل واستعنت بالكثير من المراجع الصوتية والمرئية ولا أنكر أنني أشعر بسعادة غـامـرة كلما التقيت شاباً أو شابة يؤكدون أن الرواية مستهم بشكل كبير وتروي تفاصيل مروا بها.
الأدب يعطي منظوراً للحياة وكـنـت مـصـراً رغــم الـتـحـديـات في الـكـتـابـة عـلـى نـقـل مـشـاعـر هـؤلاء المــراهــقــين، خــاصــة فـيـمـا يتعلق بالحب والجنس، وجلست لفتيات مراهقات للتعرف على مشاعرهن حـيـال ذلـك وحـرصـت على انتقاء الكلمات الـدارجـة بين الشباب في تلك الحقبة. كتابي الأول »الحرب
للحيوانات« كـان يـدور فـي فصل الــشــتــاء شــهــر فــبــرايــر (شـــبـــاط)، ووددت أن أقدم توقيتاً آخر للكتابة وروحــاً أخـرى وأن يكون الصيف لتلطيف معالجة قضايا المصائر والـحـتـمـيـة والــقــدريــة والـعـلاقـات الاجتماعية التي تدور بين الشباب والمراهقين التي تصبح أكثر قوة من فترة الدراسة. * تـتـهـم الــروايــة الـعـولمـة والـحـداثـة بتدمير حياة أبطالك، ما رسالتك التي رغبت في إيصالها عبر »أولادهــم من بعدهم«؟
- حـاولـت تبني نهج جمالي أتــنــاول فـيـه الـجـانـب الاجـتـمـاعـي للحياة المراهقين في التسعينيات، آومــن بــأن هـنـاك خـطـاً رفـيـعـاً بين الـــواقـــع والــخــيــال، مــا كـتـبـتـه في »أولادهــــــم مــن بـعـدهـم« هــو كيف يحتم الواقع أحياناً على الإنسان أن يعيش في حلقات مفرغة ويرث مـصـائـر مـــقـــدرة. هــدفــي مــن هـذه الرواية أن أوصل رسالة للمراهقين الذي يعانون أحياناً من الإحباط أن العالم دائم التقلب وهناك أمور قدرية فرضها المجتمع لكن يمكن مع الإدراك الكامل لطبيعة العالم الـتـخـلـص مــن الــعــوائــق والمـضـي قـــدمـــاً والـــقـــيـــام بـــــــدور فـــعـــال فـي الحياة. * في روايتك الأولـى تناولت عالم الجريمة، هل تعد »أولادهم من بعدهم« بـدايـة لتشكل مـشـروع أدبــي ارتسمت ملامحه وتوجهك للواقعية الاجتماعية؟
- كــــانــــت الـــقـــصـــة بــولــيــســيــة سوداء، ومع تطور الأحداث اختفى الجزء البوليسي ليظهر الجانب الـواقـعـي وهــذا الـنـوع الـروائـي لم يعد يحظى بإقبال القراء، بل بات الجمهور يتجه للأعمال التاريخية والخيال العلمي، وهناك اهتمام خاص في فرنسا بالأدب الأميركي،
ورغــم ذلــك حققت الــروايــة الأولــى صدى جيداً وتم تحويلها لمسلسل تلفزيوني، تلقائياً تغير مزاجي الكتابي مـع الـروايـة الثانية التي ظـــهـــرت فــكــرتــهــا أثــــنــــاء كـتـابـتـي للرواية الأولى. * والآن، ننتقل إلى موضوع آخر. هـل يـمـكـن الـقـول إن وجـــود كـتـاب من الأجيال الثالثة من المهاجرين العرب قد أثر في الأدب الفرنسي؟
- بــالــفــعــل. لــقــد أصـــبـــح لـهـم قراء كثر ويتصدرون قوائم الأكثر مبيعاً، لا سيما ياسمينا خضرا وكــــمــــال داود، وهــــنــــاك بـالـطـبـع اهـــتـــمـــام كــبــيــر بــــــــالأدب الــعــربــي المــتــرجــم لــكــن مـــا تـــم رصـــــده هـو تـراجـع مبيعات الــروايــات ١٧ في المائة عن العام الماضي. * هـــل يــمــكــن أن تــلــجــأ لــلــروايــة التفاعلية كما فعل الـروائـي الأميركي جيمس باترسون؟
- لــــــم أفـــــكـــــر فــــــي ذلــــــــــك، لــكــن بالتأكيد أنا أسعى لفعل أي شيء لجذب القراء للاهتمام بالروايات مـرة أخــرى، ربـمـا علينا أن نمزج بــــين الـــتـــكـــنـــولـــوجـــيـــا والـــكـــتـــابـــة الإبــداعــيــة لاســتــعــادة الـــقـــراء. أنـا واحــــــد مـــن ضــحــايــا »فــيــســبــوك« ويستهلك وقتي بشكل كبير، كذلك المسلسلات والسينما أدت لتراجع القراءة أصبحنا بحاجة لاستعادة الــقــراء وجـذبـهـم بشتى الــطــرق... برأيي الأدب لم ولن يفقد بريقه. * نــــظــــراً لاهـــتـــمـــامـــك بـــالـــحـــراك الاجتماعي، هل تلهمك حركة »السترات الصفراء«؟
- نـعـم، لكني لا أود أن أكتب عنها مباشرة لكن بشكل عام. أنا مهموم بمشاكل وقضايا الطبقة الـوسـطـى الــتــي شـكـلـت الـغـالـبـيـة الـعـظـمـى لـلـحـركـة، هـــؤلاء الـنـاس هم محور اهتمامي لأنني أنتمي إليهم... »الطبقة الوسطى« قضي عليها بفعل العولمة. في »أولادهم مــن بــعــدهــم« كـتـبـت عــن الـغـضـب والـيـأس الــذي يـعـتـري أبـنـاء هـذه الـطـبـقـة وحــاولــت رســـم بـورتـريـه لـحـيـاتـهـم وتـنـقـلاتـهـم وأســلــوب حياتهم اليومية. * متى اكتشفت ولعك بالكتابة؟
- حـيـنـمـا كـنـت فــي الـسـابـعـة مــن عـمـري تـقـريـبـاً، كـنـت شغوفاً بـالـقـراءة لكن حينما طلبت مني معلمتي الكتابة وكنت مولعاً بها كـتـبـت نـصـاً فــي مــحــاولــة إظـهـار براعتي وإثارة أعجابها، واعتبرت ذلك لحظة هامة في حياتي. * من هم الكتاب المفضلون لديك من فرنسا أو خارجها؟
- مـن دون شـك فلوبير وزولا وسيلين وجـان باتريك مانشيت، وأيــضــاً آنــي آرنـــو الـتـي أديـــن لها بالكثير. ومـن الأدبــاء الأميركيين أحــــب هــيــمــنـغـواي فـــي تـجـسـيـده حياة البسطاء. لكني أحب الشعر وأحـرص على قراءته يومياً؛ لأنه يتغلغل داخل النفس البشرية. * هل لديك مشروع روائــي تعمل عليه حالياً؟
- وضــعــت مـخـطـطـاً مـبـدئـيـاً وأعكف على كتابة عمل رومانسي أيضاً عن العلاقة بين الرجل والمرأة والطرق التي تقرب بينهما في ظل علاقات مفككة نعيشها حالياً. * أنت تعمل بوظيفة بدوام يومي، هل فكرت بعد فوزك بالـ »غونكور« ترك الوظيفة والتفرغ للكتابة الروائية؟
- لا لـــم أفــكــر ولا أظــــن ذلـــك. أعمل حالياً في مجال الحفاظ على جودة الهواء وهو مجال يجعلني ألتقي بـأنـاس جـدد يومياً وأطلع على مستجدات الأمــور وقصص جديدة وهو ما يمدني ويدفعني للكتابة.