Asharq Al-Awsat Saudi Edition

ما يسرده التاريخ... توثقه الحكايات

قراءة الحكائي والتاريخي في رواية »المشراف«

- د. صالح بن أحمد السهيمي* * ناقد سعودي

تـبـدو روايــة »المــشــرا­ف«، وهي التجربة السردية الأولى للإعلامي عــبــيــد الــســهــ­يــمــي، (صـــــــــ­درت عـن دار مـسـكـلـيـ­انـي. تــونــس، ٢٠١٩،( روايـــة جـديـرة بـالاحـتـف­ـاء، لكونها تحتفي بالحكاية وبالتاريخ معاً، فالتقاطع بين الحكاية والتاريخ قد شكَّل أبعاداً ودلالاتٍ أثـارت أسئلة الإبـــداع والمـكـان والــزمــا­ن والـواقـع؛ أثـــــارت عــلاقــة الــتــاري­ــخ بـالـحـكـا­يـة عــبــر الـــــــر­ؤى الــقــائـ­ـمــة فـــي أذهـــــان الشخصيات داخـل الـروايـة ورؤيـة السارد وتنويعاته الحكائية.

تــنــطــل­ــق الـــــروا­يـــــة مــــن الــوعــي الـحـكـائـ­ي؛ مـنـذ أن لامـــس الـكـاتـب العلاقة بين التاريخ والحكاية حد الانـدمـاج عبر مقولته »هـذا العمل تـاريـخ مـن لا تـاريـخ لـهـم«، فيبدو البناء منذ اللحظة الأولـى اعترافاً معلناً بالتاريخ، ويعقبه بعد ذلك بـالـحـكـا­يـة، فـيـتـجـلـ­ى فــي المـفـتـتـ­ح الـسـردي قـولـه: »قـبـل أن أبــدأ سـرد حكايتي...«.

تــــتــــ­شــــكّــــل أبـــــــع­ـــــــاد الـــــتــ­ـــاريــــ­ـخ والـــحـــ­كـــايـــا­ت لـلـكـشـف عـــن ركــيــزة ثــابــتــ­ة فـــي الــنــص تـتـمـحـور حــول الــتــصــ­وّر، فـالـتـصـو­ر لـــدى الـــراوي خــلاف الـتـصـور لــدى الشخصيات الـــروائـ­ــيـــة، فـــالـــر­ؤى الــســردي­ــة بين الراوي والشخصيات تتشكلان من أجل تقاطع حكائي - تاريخي عبر اللجوء إلى التبرير السردي، فمثلاً ما علاقة الإهداء بالإرهاب؟! فالقارئ لـلـروايـة لا يـجـد سبباً مقنعاً منذ اللحظة الأولــى، وعليه البحث عن هذا السبب في معاطف الحكايات، ثم تتكشف له العلاقة في الصفحات الأخيرة، وتتجلى المعلومة السردية غير المتوقعة في نهاية مفتوحة! ثم يكشف التبرير التركيبي في اختيار الأسماء ذات الدلالات المختلفة، ثمَّة أسماء تتصل بالبيئة المكانية في اختلافاتها وتنوعها، وهناك ألقاب وكنى َتتصل بالأحداث والمكوِّنات السردية المشكّلَة للحكايات.

فـالـتـاري­ـخ والـحـكـاي­ـة ركـيـزتـان اعتنى بهما الكاتب في بناء روايته وفـــــق فــهــمــه الــــخـــ­ـاص لـلـحـكـاي­ـات وأبـــعـــ­ادهـــا الــجــمــ­الــيــة، ومــســاءل­ــة الــــتـــ­ـاريــــخ؛ لــكــونــ­ه يــخــلــق تــبــريــ­راً لـــلـــحـ­ــكـــايــ­ـات المـــــعـ­ــــاصــــ­ـرة. وبـــهـــذ­ا تتكشف العلاقة القائمة على هاتين الركيزتين في الرواية، لإجلاء علاقة الإنسان بالمكان.

اسـتـطـاعـ­ت الــروايــ­ة أن تـحـرك الــثــابـ­ـت عــبــر تـــبـــاد­ل الأدوار بـينينين الــتــاري­ــخ والــحــكـ­ـايــات، فـالمـتـخـ­يـل السردي للحكاية والتاريخ يختلف بــــين الــــــــ­ـراوي والـــشـــ­خـــصـــيـ­ــات، إذ حــــاولــ­ــت الـــحـــك­ـــايـــات الاســتــع­ــانــة بــالــتــ­اريــخ لـلـكـشـف عـــن غـمـوض حـاصـل فـي الـواقـع تجهله بعض الشخصيات بما فيها الـسـارد - الـبـطـل، وربـمـا امـتـد الـجـهـل إلـى الـتـلـقـي بـالمـفـار­قـة الـحـاصـلـ­ة في بعض النهايات!!

ومـــــمــ­ـــا أعــــــــ­ــان عــــلــــ­ى بـــنـــاء تاريخ المكان والأبعاد الجمالية للحكايات في الرواية استدعاء تــــاريــ­ــخ الـــقـــر­يـــة بــالــحــ­كــايــات المحيطة بها، وبما قاله التاريخ لـــتـــبـ­ــريـــر َبـــعـــض الـــحـــك­ـــايـــات

َ الـتـاريـخ­ـيـة، ف ــق ــرْيَــة المـشـراف بناها الجد الذي جاء من مكان مجهول، حـامـلاً معه الكنز أََّّأ المخبَّأ في بئر قريبة من منزله الذي نزل. والكنز عبارة عن عمود من أعمدة مــديــنــ­ة إرم الـــتـــي تــظــهــر كـــل ألــف سنة!! جاء به الجد من المدينة على ظهور عشرة جمال!! ففي الحكاية يــســتــد­عــي الـــتـــا­ريـــخ مـــبـــرر­اً مـكـان القرية، ومحمّلاً المكان بالحمولات الأسطورية والحكايات الغرائبية، والراوي يلجأ إلى إحالة القول إلى مـنـطـقـة تــجــوّز الـفـن عـبـر الـحـكـايـ­ة حين يحيل القول إلى مجهول !! »قيل له سِرْ باتجاه الغرب حصناً شيده بنو هلال على رأس تلة صغيرة،« كما أن الراوي يشرك الجنّ في تأثيث الحكايات والتشكيل البنائي عبر حضورهم الفاعل في الحفاظ على الكنز المخبوء في البئر، وحمايته والـــدفــ­ـاع عـنـه وعـــن أهــلــه، ويـتـكـئ الراوي على التفكير الأسطوري في إشاعة الأخبار على ألسنة العجائز في المكان، ثم يحاول أن يقترب من شخصية الأب الـذي يهديه بعض الحكم في التصالح مع الموت مثلاً!

الــــوعــ­ــي بــالــحــ­كــايــة ودورهـــــ­ــا فـي بـنـاء الــروايــ­ة وعــي حـاضـرٌ في الـكـتـابـ­ة الــروائــ­يــة، فـهـو يستدعي هذا الوعي كتابياً بالاعتراف داخل الـكـتـابـ­ة، فـفـي بـعـض حــواراتــ­ه مع شـخـصـيـة »هــيــام« يـقـول الــســارد: »هــنــاكهن­اك بـعـضضالتف­االـتـفـاص­ـيـل التي لا تزيد المكان إلا تعقيداً!!«.

ثـم يسهم الـوعـي فـي التحفيز الحكائي؛ حـين يستدعي التاريخ وحــــكـــ­ـايــــاتـ­ـــه الأســــــ­طــــــوري­ــــــة، فـفـي أسطورة مدينة إرم مثلاً، وما قيل عنها في بنائها على يد شداد بن عاد، وأنه أرادها جنة زمن الأحقاف في التاريخ القديم... ولأنها تظهر فـي كـل ألــف سـنـة مــرة واحـــدة لمـدة لــيــلــة كـــامـــل­ـــة!! الـــــروا­ئـــــي اسـتـثـمـر الـــحـــك­ـــايـــة، لأجـــــل تــحــفــي­ــز الــبــنــ­اء السردي من جهة، ومن جهة أخرى تـبـريـراً لحكاية الكنز المـخـبـوء في البئر، وربـطـاً بـين الكنز والصدفة التي قـادت الـجـدّ لمكان المدينة، ثم السير عنها باتجاه الغرب وحراسة الجن مع ما كان عليه من بنية قوية وطول فارع.

أرادت الرواية أن تنشئ حواراً مع الأسطورة والتاريخ عبر ملامح أسـلـوبـيـ­ة؛ مـنـهـا أســلــوب الــســؤال والــــــج­ــــــواب، فــتــأتــ­ي الأســـئــ­ـلـــة مـن الشخصية الرئيسة أو الشخصيات الأخــــــ­ــــــرى، لــيــجــي­ــب الــــــسـ­ـــــارد عـن كـثـيـر مـنـهـا ويــتــصــ­دى لـلأجـوبـة المشكلة والمحفزة لحكايات أخرى واســـتـــ­دعـــاءات تـاريـخـيـ­ة جــديــدة، ومــــا تــكــاد تــخــرج مـــن حــكــايــ­ة إلا وتـجـد الأخـــرى فـي انـتـظـارك. هـذا الامـتـلاء الحكائي لــفــاعــ­لــيــة الـــقـــو­ل وتوجيه الأحــداث نـحـو الالــتــق­ــاء مع الـحـكـايـ­ة الـرئـيـسـ­ة أســـــــه­ـــــــم فـــــــــ­ي رفــــــد المــوضــو­ع الـرئـيـس لـــــــلـ­ــــــرواي­ـــــــة، وأراد أن يـــقـــول بـالـتـنـو­ع الإنساني والتصالح مـــــــــ­ــع الــــــــ­ـفــــــــ­ـضــــــــ­ـاءات المحيطة!! إلا أن نهاية الرواية خالفت ما كان البناء السردي يسعى مــن أجـــل تـوظـيـفـه في الــــحـــ­ـيــــاة والـــتـــ­صـــالـــح معها، بل كان التصالح مــــع المـــــــ­وت بــطــريــ­قــة لا تليق!! وقـــــــر­يـــــــة المــــــش­ــــــراف فـي خـيـال الــــراوي »قـريـة مــــــــن خــــــــي­ــــــــال« مـــحـــاط­ـــة بــالــحــ­كــايــات المــتــخـ­ـيــلــة، وإن كان اسمها واقعاً في الحقيقة، إلا أن الروائي أراد القول بـأهـمـيـة الــوعــي الـكـتـابـ­ي لـسـطـوة الحكايات وانتقالها عبر التاريخ في هـذا المكان »الثابت جغرافياً،« وأراد الـــكـــش­ـــف عــــن حـــجـــب الــفــن الحكائي في بناء قصصي يستلهم الحكايات والأبـعـاد التاريخية في بناء الـروايـة، فيقول مثلاً الــراوي: »وأنــــا أوردهــــا - قـصـة قـطـع لـسـان الـجـدة - هـا هنا لاستكمال البناء القصصي في الحكاية.« فــيــتــج­ــلــى »مـــــا وراء الـــســـر­د« عـبـر مـا ذكـــره الــروائــ­ي فـي المـقـولـة السابقة، لكي يبرر انتقاله الحكائي إلـى حكاية أخـرى عـابـرة للتاريخ؛ تتمثل في مكان قبر العابد الزاهد إبراهيم بـن أدهــم، قريباً مـن مكان جبل صالح من جبال نصبة القريبة من قرية المشراف: »حضرته الجدة وهي تحمل النذر!!« وهذه الحكاية لم تعد موجودة على أرض الواقع الــــيـــ­ـوم؛ كـــانـــت جــــــزءاً مـــن الـــذاكــ­ـرة الـشـعـبـي­ـة الــتــي اسـتـدعـهـ­ا الــــراوي مــن أجـــل تـبـريـر وعـــي الـشـخـصـي­ـة بأهمية القصص الغريبة في البناء الـــســـر­دي: »قــالــت وهـــي تـحـكـي لي هذه القصة الغريبة: يا ولدي، هذا الإنـسـان الطيب الصالح أعــاد إلى جدتك لسانها .«...

وهـــــذا يـجـسـد بــعــداً تـاريـخـيـ­اً جـــاء عـبـر جـمـالـيـة الـحـكـايـ­ة وفـق البناء الـسـردي لها داخـل الـروايـة، مـع الإيــمــا­ن بـأهـمـيـة عــدم إغـضـاب الـجـدة »الـكـنـز الـحـكـائـ­ي« المـخـتـزل لألـــف قــصــة ومــلــيــ­ون حــكــايــ­ة عبر تـاريـخـهـ­ا الـزمـن الــذي يمتد لأكثر من ثمانين عاماً عن قرية المشراف. فيعلن الكاتب أن هـذه الـجـدة: »كل الحكايات محفوظة في مخيلتها.« ثــم إن الإرث الـحـكـائـ­ي يـنـتـقـل من الـجـدة والـجـد حتى الـسـارد الابـن، فقد استطاع السارد أن يصون هذا الإرث وينقله من الجانب الشفاهي عبر السرد للآخرين، ثم ينتقل به الـروائـي إلـى الجانب الكتابي عبر الرواية.

يـــعـــلـ­ــي الــــــــ­روائــــــ­ــي مــــــن قــيــمــة الـــحـــك­ـــايـــات مـــــن حـــيـــث أبـــعـــا­دهـــا الـزمـانـي­ـة فـي حــــوارات مـتـفـرقـة في الــروايــ­ة، فـفـي أحــد هــذه الـحـوارات تقول شخصية روائـيـة إن الأعمار لا تقاس بما تعارف عليه الناس!! بل تقاس بالحكايات، وهذا كاشف عن التقاطع بين الأبعاد الحكائية وتجاربها، وما تحمله من جماليات متنوعة، وبـين الأبـعـاد التاريخية المتمثلة فيما تعارف عليه الناس!! هــــذا الــتــقــ­اطــع يــشــيــر إلــــى أهـمـيـة الـــتـــا­ريـــخ فـــي صــنــاعــ­ة الــحــكــ­ايــات داخل البناء السردي، ويثير العلاقة الــحــمــ­يــمــة بـــين الأدب والـــتـــ­اريـــخ. فيكشف بالتالي احتضان التاريخ للرواية عن أبعاد تتمثل في إلغاء خصوصية المكان، وارتقاء بالقيمة المثلى للزمان، ارتقاء يتجلى فيما تــقــدمــ­ه الــحــكــ­ايــات مـــن جـمـالـيـا­ت متنوعة تـرفـد الـسـرد بأهمية هذا الالتقاء.

حـاولـت الــقــراء­ة أن تسهم في الكشف عن أهمية الأبعاد التاريخية والأبـعـاد الجمالية للحكايات من خــلال مـلامـسـة المــوضــو­ع ملامسة شفيفة، حيث أشــارت الـقـراءة إلى أهــمــيــ­ة الــحــكــ­ايــات وأبـــعـــ­ادهـــا في تقاطعها مع التاريخ، وأنَّ المعرفة بالتاريخ ومساءلته فـي كثير من مواطن العمل الروائي، ليست مهمة في ذاتها؛ بل أهميتها تتجلى في التوظيف الجمالي الفاعل وراء هذا الالـتـقـا­ء، وكــأنَّ مـا يـسـرده التاريخ

ّ توث قه الحكايات.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia