Okaz

أردوغان.. «بدلة» أوروبية حتت «قفطان» عثماني

- Nyamanie@hotmail.com

كـمـا أصـبـحـت االنــقــا­لبــات العسكرية مــن سقط الـتـاريـخ، كـذلـك لـم يعد مناسبًا لبس القفطان ووضع التاج وحمل الصولجان. فبغير غمض للحقوق، وتجاوز لــأدوار املهمة التي تلعبها الشخصيات القيادية في األمـم واملجتمعات؛ يمكننا القول إن فكرة القائد األوحـــد، واملـخـلـص «الـسـوبـر» لـم يعد لها حضور فـي املشهد السياسي الـعـاملـي الــيــوم؛ إال لــدى عقليات مـا زالت تعيش واقعها بأشواق التاريخ املسطور، الذي يبرز شخصيات بشكل الفــت فــي صفحات األحــــدا­ث، فبقيت رمـــوزا فــي الذاكرة الـجـمـعـي­ـة، تضيف لـهـا املـخـيـلـ­ة املـشـتـرك­ـة صـــورة الـبـطـولـ­ة في أزهى أشكالها، بما يلحقها باألساطير، وعلى هذا تتوق إليها «اآلمال الكسيحة»، وتناديها لتخلصها من ربقة الحاضر الذي يـحـاصـرهـ­ا، والـعـقـبـ­ات الـتـي تـحـوطـهـا، واملــشــا­كــل الـتـي تمسك بخناقها. ولعل منطقتنا العربية هي األكثر شقاء بهذا النوع من «اآلمال الكسيحة»، فما زالت الشعوب تنتظر مخلصا واحدا يريحها من كل العذابات التي تعيشها، وقائدا يحمل عن كاهلها الهم الذي يكتم على أنفاسها، فإن برق لها بارق من ذلك في شخصية من الشخصيات تعلقت بها، وأسبغت عليها من فائض مشاعرها من «حلل الصفات» ما تشرخ به حناجرها هتافا «بالروح بالدم نفديك يا فالن» وأن مصير اإلنسانية مرتبط بهذا الزعيم امللهم، فــإذا ما تكشفت لها الحقيقة الحقا رمته بالخيانة، ووصمته بالخنوع، وعادت تبحث عن «زعيم» و«قائد» و«مخلص»، فإن تأخر الحصول عليه نادت «املقابر»، وصاحت في الغائبني، فما أكثر ما أزعجت «صالح الدين األيوبي» في رقدته، وعكرت عليه مضجعه الساكن في انتظار البعث والنشور.. إنــهــا صــــورة تـبـقـى حــاضــرة تـفـسـيـره­ـا غــيــاب الديموقراط­ية، وانقطاع أواصـر الشورى في أغلب مجتمعاتنا، ولهذا فالعقل الجمعي حضني ألسطورة البطولة املفردة، ومشبع بفكرة القائد األوحــد املخلص، ومـرتـاح لسيرة التاريخ التي تهيج مشاعره الفياضة عندما يأتي الذكر على الرموز الخوالد في روعه املأزوم،

َّّ فــمــا عــلــيــه مـــن بــــأس إن ضخم شخصا من الشخصيات تسمى بهذه البطوالت زيفا في العصر الـــحـــد­يـــث، وحــــــرك فـــي نوازعها تــلــك األشـــــو­اق الــكــامـ­ـنــة بخطاب عـصـابـي، وســلــوك ديماجوجي، ومقاصد برغماتية تعرف غايتها معرفة وثيقة، وتعبر إليها على ظهور السذج واألغبياء.. وما أوضح الصورة إن نظرنا إلى شخصية الرئيس التركي أردوغان؛ فهذه الشخصية تعيد إنتاج أزمة «البطل األوحد»، بخاصة وأن بلده منتم إلى رقعة جغرافية غــادرت هـذا املـربـع البائس منذ أمـد ليس بالقصير، وتحديدا عندما توطنت أسس الديمقراطي­ة وصارت أسلوب حياة، وليس

ّّ «مطية» للوصول إلى سدة الحكم، عبر صناديق االقتراع، التي نتوهم أنـهـا غاية الديمقراطي­ة، ولــم نفهم أنها إحــدى وسائل تحقيقها فقط، كما حــدث فـي مصر عندما فتحت الصناديق رحابتها لجماعة «اإلخـــوان املسلمني»، وحملتهم إلــى كراسي الحكم، وعندها أخرجوا أجندتهم الخاصة، وظهروا بوجههم األيديولوج­ي القبيح، إلى أن قيض الله ملصر من يخرجها من ظلمات «اإلخوان» إلى رحابة مصر التي نعرف، وبني «أردوغان» و«جماعة اإلخـوان» ذات األشواق املريضة، واألمنيات الخائبة، املنظورة في القائد املنتظر، والزعيم املخلص. وعلى هذا فتركيا الـــــيــ­ـــوم تــــبــــ­دو دولـــــــ­ــة مستنبتة فـــي غــيــر مــوضــعــ­هــا، طـــاملـــ­ا بقي أردوغـــان حريصا على لعب دور ملتبس، يخبئ «قفطان السلطان العثماني» تحت «بـدلـة الرئيس األوروبـــ­ــــــــــ­ــي»، ولــــيـــ­ـس بالعسير إدراك حجم املخاطر التي تنطوي عليها السياسات التي يمارسها وينتهجها على دول الجوار من تدخالت سافرة، وإبقاء املنطقة بأسرها تحت الغليان واألحـــدا­ث الدموية بما يقدمه مـن دعم لـجـمـاعـا­ت اإلســــال­م الـسـيـاسـ­ي وعــلــى رأســهــا «جــمــاعــ­ة اإلخوان املسلمني»، وهو دعم يتجاوز الحدود اللوجستية إلى املشاركة الفاعلة في إثــارة القالقل واالضـطـرا­بـات، مهيجا في روع هذه الجماعات صـورة املناصر لقضايا األمـة اإلسالمية والعربية، لتتعلق بها تعلقا مرضيا، وهـي صــورة ال تنسجم مطلقا مع رئيس يقبع جغرافيا في قارة أوروبا، ويسعى حثيثا للحصول على بطاقة تخول له الدخول إلى «االتحاد األوروبــي»، فباتت تركيا بهذا املظهر لرئيسها أردوغان «جسدا حاضرا في أوروبا وعقال ماضويا في الشرق». وليت صورة أردوغان ظلت مطابقة لفكرة القائد واملخلص كما في النماذج التاريخية، ولكنها بمقياس الواقع املنظور تكشف عن تناقض يصل إلى حد التضارب في كثير من املواقف، ومن أراد االستيثاق فلينظر إلى مواقف أردوغان مع مصر وروسيا وإسـرائـيـ­ل وســوريــا، وأنــا ضمني لـه أن يحصل على سيناريو يصلح ملسرحية كوميدية غاية في اإلدهاش واملتعة. إن مــثــل شـخـصـيـة أردوغـــــ­ـان مــا كـــان لــهــا أن تــأخــذ هـــذا البعد «البطولي» لو ال أن بعض الجماعات املحركة ملفهوم اإلسالم الـسـيـاسـ­ي، قــد ركبته مطية لتحقيق غـايـاتـهـ­ا، وقـــدم نموذجا يتطابق مع سلوكها، بما في ذلك حـاالت التناقض التي تصم مــراوغــا­تــهــا الـسـيـاسـ­يـة الــتــي تــؤصــل لـهـا ديـنـيـا بـمـفـهـوم «فقه الضرورة» املستنسخ من مفهوم «التقية»، وقد ملسنا تطبيقاته العملية فـي تجربة «اإلخـــوان املسلمني» فـي الــســودا­ن، ومصر، وتــونــس. تحية للشعب التركي الــواعــي الــذي فضل االستقرار فوقف مـع الشرعية وأفـشـل االنــقــا­لب، وعلى أردوغـــان أن يعيد حــســابــ­اتــه ويـــأخـــ­ذ درســــًا عـمـيـقـًا مــمــا حــصــل بــعــيــدًا عـــن زمرة املطبلني واملنتفعني وأصحاب العمائم واللحى.. اللهم أدم علينا نعمة االستقرار واألمن واألمان.

 ??  ??
 ??  ??
 ??  ??
 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia