أردوغان.. «بدلة» أوروبية حتت «قفطان» عثماني
كـمـا أصـبـحـت االنــقــالبــات العسكرية مــن سقط الـتـاريـخ، كـذلـك لـم يعد مناسبًا لبس القفطان ووضع التاج وحمل الصولجان. فبغير غمض للحقوق، وتجاوز لــأدوار املهمة التي تلعبها الشخصيات القيادية في األمـم واملجتمعات؛ يمكننا القول إن فكرة القائد األوحـــد، واملـخـلـص «الـسـوبـر» لـم يعد لها حضور فـي املشهد السياسي الـعـاملـي الــيــوم؛ إال لــدى عقليات مـا زالت تعيش واقعها بأشواق التاريخ املسطور، الذي يبرز شخصيات بشكل الفــت فــي صفحات األحــــداث، فبقيت رمـــوزا فــي الذاكرة الـجـمـعـيـة، تضيف لـهـا املـخـيـلـة املـشـتـركـة صـــورة الـبـطـولـة في أزهى أشكالها، بما يلحقها باألساطير، وعلى هذا تتوق إليها «اآلمال الكسيحة»، وتناديها لتخلصها من ربقة الحاضر الذي يـحـاصـرهـا، والـعـقـبـات الـتـي تـحـوطـهـا، واملــشــاكــل الـتـي تمسك بخناقها. ولعل منطقتنا العربية هي األكثر شقاء بهذا النوع من «اآلمال الكسيحة»، فما زالت الشعوب تنتظر مخلصا واحدا يريحها من كل العذابات التي تعيشها، وقائدا يحمل عن كاهلها الهم الذي يكتم على أنفاسها، فإن برق لها بارق من ذلك في شخصية من الشخصيات تعلقت بها، وأسبغت عليها من فائض مشاعرها من «حلل الصفات» ما تشرخ به حناجرها هتافا «بالروح بالدم نفديك يا فالن» وأن مصير اإلنسانية مرتبط بهذا الزعيم امللهم، فــإذا ما تكشفت لها الحقيقة الحقا رمته بالخيانة، ووصمته بالخنوع، وعادت تبحث عن «زعيم» و«قائد» و«مخلص»، فإن تأخر الحصول عليه نادت «املقابر»، وصاحت في الغائبني، فما أكثر ما أزعجت «صالح الدين األيوبي» في رقدته، وعكرت عليه مضجعه الساكن في انتظار البعث والنشور.. إنــهــا صــــورة تـبـقـى حــاضــرة تـفـسـيـرهـا غــيــاب الديموقراطية، وانقطاع أواصـر الشورى في أغلب مجتمعاتنا، ولهذا فالعقل الجمعي حضني ألسطورة البطولة املفردة، ومشبع بفكرة القائد األوحــد املخلص، ومـرتـاح لسيرة التاريخ التي تهيج مشاعره الفياضة عندما يأتي الذكر على الرموز الخوالد في روعه املأزوم،
َّّ فــمــا عــلــيــه مـــن بــــأس إن ضخم شخصا من الشخصيات تسمى بهذه البطوالت زيفا في العصر الـــحـــديـــث، وحــــــرك فـــي نوازعها تــلــك األشـــــواق الــكــامــنــة بخطاب عـصـابـي، وســلــوك ديماجوجي، ومقاصد برغماتية تعرف غايتها معرفة وثيقة، وتعبر إليها على ظهور السذج واألغبياء.. وما أوضح الصورة إن نظرنا إلى شخصية الرئيس التركي أردوغان؛ فهذه الشخصية تعيد إنتاج أزمة «البطل األوحد»، بخاصة وأن بلده منتم إلى رقعة جغرافية غــادرت هـذا املـربـع البائس منذ أمـد ليس بالقصير، وتحديدا عندما توطنت أسس الديمقراطية وصارت أسلوب حياة، وليس
ّّ «مطية» للوصول إلى سدة الحكم، عبر صناديق االقتراع، التي نتوهم أنـهـا غاية الديمقراطية، ولــم نفهم أنها إحــدى وسائل تحقيقها فقط، كما حــدث فـي مصر عندما فتحت الصناديق رحابتها لجماعة «اإلخـــوان املسلمني»، وحملتهم إلــى كراسي الحكم، وعندها أخرجوا أجندتهم الخاصة، وظهروا بوجههم األيديولوجي القبيح، إلى أن قيض الله ملصر من يخرجها من ظلمات «اإلخوان» إلى رحابة مصر التي نعرف، وبني «أردوغان» و«جماعة اإلخـوان» ذات األشواق املريضة، واألمنيات الخائبة، املنظورة في القائد املنتظر، والزعيم املخلص. وعلى هذا فتركيا الـــــيـــــوم تــــبــــدو دولـــــــــة مستنبتة فـــي غــيــر مــوضــعــهــا، طـــاملـــا بقي أردوغـــان حريصا على لعب دور ملتبس، يخبئ «قفطان السلطان العثماني» تحت «بـدلـة الرئيس األوروبـــــــــــــــي»، ولــــيــــس بالعسير إدراك حجم املخاطر التي تنطوي عليها السياسات التي يمارسها وينتهجها على دول الجوار من تدخالت سافرة، وإبقاء املنطقة بأسرها تحت الغليان واألحـــداث الدموية بما يقدمه مـن دعم لـجـمـاعـات اإلســــالم الـسـيـاسـي وعــلــى رأســهــا «جــمــاعــة اإلخوان املسلمني»، وهو دعم يتجاوز الحدود اللوجستية إلى املشاركة الفاعلة في إثــارة القالقل واالضـطـرابـات، مهيجا في روع هذه الجماعات صـورة املناصر لقضايا األمـة اإلسالمية والعربية، لتتعلق بها تعلقا مرضيا، وهـي صــورة ال تنسجم مطلقا مع رئيس يقبع جغرافيا في قارة أوروبا، ويسعى حثيثا للحصول على بطاقة تخول له الدخول إلى «االتحاد األوروبــي»، فباتت تركيا بهذا املظهر لرئيسها أردوغان «جسدا حاضرا في أوروبا وعقال ماضويا في الشرق». وليت صورة أردوغان ظلت مطابقة لفكرة القائد واملخلص كما في النماذج التاريخية، ولكنها بمقياس الواقع املنظور تكشف عن تناقض يصل إلى حد التضارب في كثير من املواقف، ومن أراد االستيثاق فلينظر إلى مواقف أردوغان مع مصر وروسيا وإسـرائـيـل وســوريــا، وأنــا ضمني لـه أن يحصل على سيناريو يصلح ملسرحية كوميدية غاية في اإلدهاش واملتعة. إن مــثــل شـخـصـيـة أردوغــــــان مــا كـــان لــهــا أن تــأخــذ هـــذا البعد «البطولي» لو ال أن بعض الجماعات املحركة ملفهوم اإلسالم الـسـيـاسـي، قــد ركبته مطية لتحقيق غـايـاتـهـا، وقـــدم نموذجا يتطابق مع سلوكها، بما في ذلك حـاالت التناقض التي تصم مــراوغــاتــهــا الـسـيـاسـيـة الــتــي تــؤصــل لـهـا ديـنـيـا بـمـفـهـوم «فقه الضرورة» املستنسخ من مفهوم «التقية»، وقد ملسنا تطبيقاته العملية فـي تجربة «اإلخـــوان املسلمني» فـي الــســودان، ومصر، وتــونــس. تحية للشعب التركي الــواعــي الــذي فضل االستقرار فوقف مـع الشرعية وأفـشـل االنــقــالب، وعلى أردوغـــان أن يعيد حــســابــاتــه ويـــأخـــذ درســــًا عـمـيـقـًا مــمــا حــصــل بــعــيــدًا عـــن زمرة املطبلني واملنتفعني وأصحاب العمائم واللحى.. اللهم أدم علينا نعمة االستقرار واألمن واألمان.