ليبراليو الترك.. وانتهازيو العرب
من أهم مؤشرات فشل االنقالب العسكري األخير في تركيا: هذا اإلجماع املنقطع النظير بني الجماهير والنخبة السياسية في تركيا على رفض العودة لحكم العسكر، من جديد. لقد وعى األتـراك، بكافة ألوان الطيف السياسي التي تشكل حياتهم السياسية: أن املساومة على قيم الديمقراطية.. والقفز على إرادة الشعب املتمثلة في رموز مؤسسات الدولة الرسمية املنتخبة، من شأنه اإلضرار بمصالح الجميع، الـتـي ال يمكن أن يضحي بها على «مــدبــح» الـخـالفـات السياسية املستحكمة بني أقطاب وتيارات العملية السياسية النشطة في املجتمع التركي. لقد وعى الجميع، في تركيا، حقيقة: أن ركوب موجة االنقالب، وإن حقق للبعض مكاسب سياسية وقتية، إال أن ذلك ال يمكن أن يستمر، ألن العسكر يستحيل أن يتسامحوا مع وجود معارضة نشطة لحكمهم.. وال يرضون بديال لحكمهم املطلق، حيثما يتمكنون مــن االسـتـيـالء على السلطة. لــم يـحـدث فــي الـتـاريـخ أن سمح العسكر بترسيخ جذور التداول السلمي للسلطة، فــي أي مجتمع رزئ بـحـكـمـهـم... فالعسكر ال يتركون السلطة، إال بالطريقة العنيفة التي جاءوا بها إليها. لقد نــزل الشعب الـتـركـي إلــى الــشــوارع واملــيــاديــن، حال ســمــاعــه بـــأخـــبـــار االنـــــقـــــالب.. وحــــــال وثــــوقــــه مــــن فشل االنقالبيني من السيطرة على مؤسسات الدولة الرسمية، واســتــعــصــاء تـمـكـنـهـم مــن رمـــوزهـــا املـنـتـخـبـة. خرجوا رافـعـني األعـــالم الـتـركـيـة، إحـسـاسـا بــأن الخطر يـطـال الـجـمـيـع... وأن التعامل مـع هذا الخطر الـداهـم، ال تنفع فيه أساليب و «تكتيكات» أجــواء الظروف السياسية الطارئة كتلك التي تسمح باملناورات واملناكفات السياسية، في إطار حركة الصراع السلمي على السلطة، في الظروف الطبيعية. لم يرفع أنصار الحكومة، أعالم حزب العدالة والتنمية.. ولم ترفع الجماهير املحتشدة الهادرة في شــوارع تركيا وميادينها صـورا للرئيس رجـب طيب أردغــان.. ولـم ترفع أحــزاب املعارضة أعـالم أحزابها وال صـور زعاماتها... لقد رفـع الجميع علم تركيا، معلنني وحــدة الـبـالد، في مواجهة خطر االنـقـالب. تأكد هذا األمر، بصورة رسمية وصلت رسالتها لجميع أنحاء العالم، عندما اجتمع أعضاء البرملان، في اليوم التالي، على أنقاض برملانهم الذي قصفته طائرات العسكر، ليعلنوا تضامنهم وشجبهم ورفضهم ومقاومتهم لالنقالب، باإلجماع. سلوك عفوي من األتــراك، لم يخطط لـه، كما خطط العسكر النقالبهم. ومـا كـان إال أن يفشل االنقالب... وقد فشل، وإن كان الخطر ال زال داهما... وهذا وراء دعوة الساسة في تركيا لبقاء الجماهير في الشارع، حتى بعد أن ظهر خالف بينها عند إقرار قانون حالة الطوارئ يوم الخميس املاضي، عندما عارض ذلك حزبا الشعب الجمهوري والشعوب الديمقراطي ، حيث صــوت 246 نائبا مـن 550 نائبا، ضـد إقــرار حالة الــطــوارئ في البالد. ما حصل عند التصويت في البرملان على قانون إعالن حالة الطوارئ في تركيا، لخير دليل على أن الديمقراطية تعمل بكفاءة وفاعلية.. وأنــه ال خـوف على احتمال استبداد الحكومة في جهودها للتخلص من االنقالب ومن وراء ه. لنقارن هذا السلوك الذي تطور، بصورة عفوية تعكس وعيا جماعيا تجسد في مواقف وتوجهات ساسة محترفني مؤمنني بقيم الديمقراطية وحركة مؤسساتها في تركيا... وذلك الذي حدث في مجتمعات عربية شهدت عودة العسكر، بعد ثورات شعبية عصفت بحكمهم. املتغير األساس، الذي سمح بعودة العسكر... بل واستمرار حكمهم في بعض البلدان العربية، حتى غرقت البلد في حروب أهلية وكادت الدولة تشارف على الزوال.. وقتل مئات األلوف من شعوبها.. وهاجر املاليني قسرا من ديارهم، هو انتهازية الساسة فـي تلك الـــدول العربية، الـذيـن فشلوا فـي حـل مشاكلهم بقيم وآلــيــات الديمقراطية... فساندوا العسكر في العودة إلى الحكم.. أو تواطؤوا معهم لالستمرار فيه! معظم ما يطلق عليه النخب السياسية، في تلك البلدان العربية التي كـان لبعضها أحزاب سياسية لها تاريخ عريق في العمل السياسي، لم يستطيعوا االحتكام إلى قيم الليبرالية الحقة، واستسلموا لعقد خالفاتهم األيدلوجية.. وضاقوا ذرعـا بالعملية الـسـيـاسـيـة الــســلــمــيــة... بــل وبـعـضـهـم حـــرض عـلـى عودة الـعـسـكـر لـلـحـكـم، اســتــغــالال لــظــروف املــرحــلــة االنتقالية الصعبة التي مرت بها بالدهم بعد حالة عدم االستقرار االستثنائية التي تمخض عنها بــزوغ فجر ديمقراطية ولـيـدة، ربما طالت فترة مخاضها.. وتعسرت والدتها.. وأنجبت مولودا مبتسرا، هو أقرب للجنني منه للخديج. لــقــد سـيـطـر عــلــى الــســاســة الـــعـــرب، فــي تــلــك املجتمعات، حالة من االنتهازية، تشبه إلى حد كبير جريمة محاولة االنتحار السياسي. لم يعوا درس حكم العسكر الطويل واملرير ملجتمعاتهم.. ولم يعوا درس تهميشهم املتعمد من قبل العسكر، واستغاللهم كواجهة «ديكورية» لحكمهم املستبد.. ووقــعــوا، فـي نفس الخطأ، بـل ولنقل نفس الخطيئة، مـن أن العسكر سوف يقدمون لهم السلطة على طبق من ذهب، بعد أن يخلصوهم من خصومهم السياسيني، وبالتالي صـدقـوا: أن العسكر يمكن أن يتبنوا حياة ديمقراطية سليمة، وأنهم حقا زاهدون في السلطة والحكم! تفكير انتهازي ساذج، قاد إلى أن يكون هؤالء الساسة العرب، الذين وقعوا في خطيئة الثقة، من جديد في حكم العسكر، أن يكونوا ضحايا عودة العسكر للحكم، بعد نجاح االنقالب والتخلص من العدو املشترك. لقد دفع هؤالء الساسة العرب ثمن تنكرهم لقيم الليبرالية الحقة بتوهمهم أن ينزلهم العسكر قصور الحكم، وانتهى األمر ببعضهم إلـى غياهب السجون.. أو االغـتـراب القسري خــارج الوطن، ويبقى بعض آخـر فقد كل الفرص الحقيقية في العودة إلى العمل السياسي اآلمن. الفرق بني الساسة الترك والعرب، في هذا املجال، هو ذلك الفرق الذي تحكيه قصة األسد مع األفيال الثالثة. الساسة الترك لم يتآمروا على الديمقراطية، كما تآمر األفيال على بعضهم البعض فأكلهم األسد الواحد تلو اآلخر... بينما الساسة العرب، بتآمرهم على الديمقراطية، سمحوا ألنفسهم أن يتآمروا على بعضهم البعض حتى أكلهم األسد جميعهم، يوم أن سمحوا له بأن يأكل أولهم (الفيل األبيض).