في إسقاط التاريخ حياة
إســـقـــاط الـــتـــاريـــخ يــحــيــي الـــحـــاضـــر، ويــخــلــصــه مـــن كل إشكاالت الطائفية، اإلرهــاب، الـثـارات القومية، الخوف، ويـرفـع مـن حظوظ التعايش بـن األمــم، واألفـــراد، كذلك األحــقــاد املــتــوارثــة خــاصــة الـنـاتـجـة عــن قـصـص نسجها املـــــوروث من خياالته عبر القرون األربعة عشر األخيرة. تخيلوا لــو أفـــاق املـسـلـمـون ذات نـهـار ولـيـس فــي ذاكــرتــهــم، أو كتبهم تـاريـخ الــنــزاع السني الشيعي، وتــاريــخ الــدم بينهما، وال كـل الفتاوى املنادية بقتل الطرف اآلخــر، ووجــدوا أنفسهم متشابهن في كل شيء من العمامة إلى املسجد، ويملكون ذاكـرة موحدة خالية تماما من كل سوءات املوروث. تـخـيـلـوا لــو أفـــاق الــعــرب بــذاكــرة خـالـيـة مــن كــل مـلـفـات تـاريـخـهـم عن االحــتــالل الـغـربـي، ديـكـتـاتـوريـات حكوماتهم الـسـابـقـة، حـروبـهـم ضد بعض، وكل الخطابات القومية العدائية في ستينات وسبعينات القرن املاضي، وكل املقاالت، البرامج التلفزيونية، واإلذاعية املوغلة أنيابها في اآلخر ملجرد ركوب موجات دعائية عدائية. تخيلوا تبدأ البنوك دوامـهـا غـدا بـذاكـرة خالية من مديونياتها على األفراد، بدون سجالت أو وثائق (شيكات أو كمبياالت) تتربص بالناس املنون والسجون، وتعلن إسقاط الديون عن كل عمالئها، كذلك يحدث مع شركات اإلقراض (من السيارة إلى الثالجة) وأقساط املدارس. تخيلوا تنسى كـل زوجـــات العالم خيانات األزواج، وينسى األحباب جــــروح األحـــبـــاب، ويــغــيــب عــن ذاكــــرة األصـــحـــاب خــيــانــات األصحاب، واألبناء عذابات اآلباء لهم، كذلك تزول ذاكرة أحزان املطلقات، اليتامى، واألرامل، بينما العامالت املنزليات (الخادمات) ال يذكرن شيئا عن نزق سيدات املنازل. تخيلوا لــو ينسى أصــحــاب الــعــقــارات أن عـلـى املـسـتـأجـريـن دفــع دماء قلوبهم، وأن مـن حقهم (بـقـوة الـقـانـون) طـردهـم، وسحق آدميتهم، لو ينسى صندوق التمويل العقاري، والبنك الـزراعـي، امتالكهما لقوائم تالحقنا في أحالمنا، وكل ذلك يؤرق يوميات حياة املتورطن بتجريب ذلك. تـخـيـلـوا لــو أفـــاق مــرتــزقــة داعــــش، الــقــاعــدة، والــحــوثــي يـتـسـاءلـون عن مـاذا جلب السالح بأيديهم، األحزمة الناسفة، والجلباب األســود، ماذا أقحمهم في الديار الخربة، ملاذا هم بعيدون عن ديارهم، والسؤال األهم ملاذا يشاركون في نحر طفل، أو تفجير مسجد؟ تخيلوا لـو نسينا كلمات املـــرور إلــى الـبـريـد اإللـكـتـرونـي، وتطبيقات الـــتـــواصـــل االجــتــمــاعــي (تـــويـــتـــر بــــدايــــة)، وانــفــصــلــنــا عـــن كـــل العالم االفـتـراضـي، وكـذلـك نسي الشيخ قـوقـل طريقة الــوصــول لكل املحتوى األحقادي املتبادل بن الشعوب والشعوب، أو بن األفراد واألفراد، وكل ذاكرة الحروب، والصراعات الفكرية، ثم ذهب (اليوتيوب) إلى ما ذهب إليه قوقل، تحديدا منابر الطائفية وكل السواد املمتد من عمائم الشيعة إلى لحى السنة. يرفض التاريخ السقوط من الذاكرة الجمعية؛ ليس ألنه يعتبر في ذلك حياته، بـل ألن بيننا أقــوامــا يعيشون على إيــقــاده، نـوافـخ كير نيران الـخـالفـات والــنــزاعــات، حياتهم فـي صناعة املــوت، وتـدويـر كـل حكاية ناتجة عـن كـذبـة، كـل قصة قــادرة على شحن قلوبنا وأفئدتنا بسواد تجاه اآلخر، إنهم مشغولون بقتل الحاضر واملستقبل بسيوف املاضي.