Okaz

التلقائي ثقافة التكفير

- محمد بن حسين الدوسري * * كاتب وباحث سعودي

إن إشكاليات التكفير التلقائي وآثاره ونتائجه لم تعد مخفية ومستترة فــي مـجـالـس ونــــدوات جـــدل، وجـلـسـات املــنــاظ­ــرات الـتـي كـانـت تـعـقـد بني تيارين ينزع كالهما من منزع واحد ومن أصل واحد بيد أنهما يختلفان فــي تحقيق مـنـاط الحكم وتنزيله على أفـــراد وأجـــزاء عناصر الوقائع، فـكـانـت مـجـالـس عـقـد املــنــاظ­ــرات خـــالل بــدايــات الــجــهــ­اد األفــغــا­نــي خالل الثمانينات ملسألة التكفير العيني ال املطلق منتشرة بتوسع في أوساط الشبيبة الصحوية بيد أن تلك املـنـاظـر­ات ومــا يتخللها مـن أحـكـام يتم تنزيلها على الوقائع واألجزاء واألشخاص كانت مقتصرة على مجالس املناظرات وحلقات الجدل التي قد ترقى ألن تكون علمية باعتبار أن من يقود دفة الجدل فيها والتناظر طالب علم كانوا متفرغني للعلم والنظر الشرعي، تلك الصورة كانت صـورة حقيقية لم تكن من نسج الخيال بل قــد عايشناها بـكـل صــورهــا وأجــزائــ­هــا وبـمـجـمـو­ع عـنـاصـرهـ­ا وبـكـل ما احـتـوتـه مــن أفـــراد وطــالب علم قــد نثرتهم الـحـيـاة فــي مختلف املشارب الثقافية والعلمية، وكانت تتصف تلك املناظرات وحلق الجدل العلمي فــي مـسـائـل الـتـكـفـي­ـر بـأنـهـا لــم تـكـن مــتــاحــ­ة لـكـل أحـــد ولـــم يـكـن التكفير ومسائله يتم التطرق له في العلن وفي املحافل العامة والندوات الثقافية املـفـتـوح­ـة، وخـصـوصـًا مــعــارض الـكـتـاب الـتـي تجمع أهــل ثــقــافــ­ات شتى ومشارب علمية تختلف اختالف أهل النحو في حتى. فقد هالني منظر غير متخيل وال متصور في األذهــان بل كـان واقعًا مشاهدًا في معرض الكتاب لهذا العام حيث رأيـت وسمعت رجلني يقرران تكفير أحد علماء املسلمني ممن له كتابات واجتهادات في القرن الخامس الهجري ويقرران تكفيره، وهــذا التكفير العلني في تظاهرة يفترض أنها ثقافية وتعزز لحقيقة ما جاءت به الشرائع السماوية أن الناس مختلفون في رؤيتهم لألشياء، وغير متطابقني في تصوراتهم ملا يدور من حولهم من حقائق وأسـبـاب، وليسوا متفقني على تفسير الظواهر التي تحدث تغيرات في املسيرة الحياتية ((واليزالون مختلفني إال من رحم ربك ولذلك خلقهم))، وهذا الخالق تبارك وتعالى قادر على أن يجعل الناس منذ خلقهم حتى مماتهم أمــة واحـــدة وعـلـى فكر واحــد وتـصـور واحــد على فكر متطابق ومتناسق اليختلف أوله عن آخره، وعلى دين أوحد سواء اإليمان أو الكفر ((ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة))، لكن هذا الخالق الكريم تعالى وتبارك قرر أنه «ال يزال الخلف بني الناس في أديانهم واعتقادات مللهم ونحلهم ومذاهبهم وآرائهم»[1]، ويقول العالمة الشيخ محمد رشيد رضا في تفسيره املنار ( م ص/12 )160 عند قوله «لجعل الناس أمة واحدة»على ديـن واحــد بمقتضى الغريزة والفطرة ال رأي لهم فيه وال اختيار، وإذن ملا كانوا هم هذا النوع من الخلق املسمى بالبشر وبنوع اإلنسان، بل لكانوا في حياتهم االجتماعية كالنحل أو النمل، وفي حياتهم الروحية كاملالئكة مفطورين على اعتقاد الحق وطاعة الله - عز وجـل - فال يقع بينهم اختالف، ولكنه خلقهم بمقتضى حكمته كاسبني للعلم ال ملهمني، وعاملني باالختيار وترجيح بعض املمكنات املتعارضة على بعض، ال مجبورين وال مضطرين، وجعلهم متفاوتني في االستعداد وكسب العلم واخــتــال­ف االخــتــي­ــار، وقــد كــانــوا فــي طــور الـطـفـولـ­ة الـنـوعـيـ­ة فــي الحياة الفردية والزوجية واالجتماع البدوي الساذج أمة واحدة ال مثار لالختالف بينهم، ثم كثروا ودخلوا في طور الحياة االجتماعية فظهر استعدادهم لالختالف والتنازع فاختلفوا، كما قال - تعالى (وما كان الناس إال أمة واحـدة فاختلفوا) في كل شيء بالتبع الختالف االستعداد - وال يزالون مختلفني - فــي كــل شــيء حتى الــديــن الـــذي شـرعـه الـلـه لتكميل فطرتهم وإزالة االختالف بينهم - إال من رحم ربك - منهم فاتفقوا على حكم كتاب الله فيهم، وهو القطعي الداللة منه الذي ال مجال لالختالف فيه، وعليه مدار جمع الكلمة ووحدة األمة، إذ الظني ال يكلفون االتفاق على معناه، ألنه موكول إلى االجتهاد الذي ال يجب العمل به إال على من ثبت عنده رجحانه، وهذه املعاني هي التي يغفله فكر التكفير املتطرف بكل أنواعه وأشكاله، فمن يحمل فكر التكفير ليس شرطأ أن يكون منتميًا إلى تنظيم القاعدة وال إلــى تنظيم داعــش أو التنظيمات الجهادية املسلحة بـل إن التكفير هو فيروس فكري خطير ينخر في جسد الثقافة الدينية املحملة باجتهادات كانت ذات مسار خاطئ في زمنها ثم جاء ت جماعات التطرف الديني سواء من كانت تحمل السالح وتخطط وتفجر في عمق املجتمعات اإلنسانية أم تلك الجماعات الدينية التي تحتمي بأنها حركات سلمية وباحثة عن السالم إال أنها تحمل في ثنايا أطروحاتها الفكرية عمق فكر التكفير بل إنها تغلف فكر التكفير بأطروحات ذات مساس باالجتهادا­ت الفقهية الظنية إال أن تلك الجماعات الدينية قد أخرجت تلك األطروحات ذات الصبغة والـوصـف الظني إلـى أن تكون ذات طابع يقيني حتمي ال يحتمل الخالف أو النظر أو االجتهاد، فكال املسارين سواء املسلح أم غير املسلح من تلك الجماعات الدينية املتطرفة يحمل في عمقه فكر التكفير ويجعله سالحًا في وجه كل فكر تنويري يبحث عن التجديد والتطوير واملراجعات لكثير من األطروحات التي هي بحاجة أولية إلى إعادة النظر فيها وسبر أغــوارهــ­ا وتمحيصها حتى يمكننا مـن عالجها وتوضيح أوجــه الخلل فيها فما لـم يتمكن املفكرون واملثقفون والعلماء مـن سبر أغــوار خطر التكفير وكيفية تقييده وتفسيره وكـل القواعد التي تتفرع منه مثل قواعد ونواقض اإلسالم وما يندرج فيها من عبارات أخطر من أسلحة الدمار الشامل مثل قاعدة (من لم يكفر الكافر فهو كافر ومن شك في كفره فهو كافر)، وذلك ألن (الوقوف على فساد املذاهب قبل اإلحاطة بمداركها محال، بل هو رمي في العماية والضالل)

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia