Okaz

تعدد الزوجات.. الشائك الفقهي واآلراء النادرة

- Arash5@hotmail.com

على رغم أن مسألة «تعدد الزوجات» تعتبر من الناحية الفقهية ضمن نطاق (املباح)، إال أنها ما زالت خطًا أحمر، ومسألة شائكة يصعب االقتراب منها، وإبـداء رأي فقهي جديد أو جذري بشكل صريح ومباشر فيها، ومن تناولها بطريقة مختلفة تنطلق من مقاصد املشرع ومتغيرات العصر، فعادة ما يالحق بأوصاف التبديع والتفسيق، وربما وصـل األمـر لحد التكفير! لكن الغريب في املقابل

تجد الصوت النسائي بشكل عام، حتى املتدينات املحافظات منهن ال يجدن أدنـى حرج في التعبير العلني عن ضجرهن ورفضهن لفكرة تعدد الزوجات، والنظر إلى هذه املسألة باعتبارها «كارثة» أخالقية، ووصمة سـوداء في تاريخ الرجل الذي يقترفها، وكأن األمر في أصله قد جاء من مشكاة أخرى مختلفة عما يـؤمـن بـه وينتمني إلـيـه. (ربـمـا يستثنى منهن تلك األكاديمية التي دعت إلى إنشاء مشروع خاص يسهل التعدد على الرجال، كما ورد في برنامج اتجاهات مع نادين البدير على روتانا). هـــذا االنــقــس­ــام الـطـبـيـع­ـي الـــذي تـحـدثـه املــســأل­ــة بــني الــواقــع النظري، والطبيعة النفسية لـلـمـرأة، انتبه لـه بشكل مبكر الشيخ اإلصالحي رفــاعــة الـطـهـطـا­وي الـــذي اتــخــذ مـوقـفـا ينضم لقائمة اآلراء النادرة تجاه مسألة تعدد الزوجات، في وقت كان املجتمع بشكل عام مقبال على التعدد والتسري، فهو اعتبر أن التعدد من األمـور التي تساهم في وقــوع االختالف والشقاق، كما ورد في كتابه (املرشد األمــني في تـربـيـة الـبـنـات والــبــنـ­ـني) قــولــه: «ونــــدب أال يــزيــد عـلـى امــــرأة مــن غير حاجة ظاهرة، فمن الجزم أال يغتر الرجل بما تظهره له املرأة من عدم غيرتها، والرضا بأن يتزوج عليها» مدلال بموقف أحدهم: «إياك أن تتزوج على امرأتك، إال إن وطنت نفسك على نكد الدهر». هــذا الــكــالم مــن اإلصــالحـ­ـي املـبـكـر لــم يـكـن مـجـرد آراء مــنــثــو­رة، بــل وثــقــهــ­ا فــي ســلــوك عـمـلـي حــني أراد أن يــتــزوج ابــنــة خــالــه، كــتــب إلــيــهــ­ا رســالــة مــؤثــرة عام ،1839 الـتـزم فيها بـاإلخـالص والــوفــا­ء، واالمتناع عــن الـــــزوا­ج بـــأخـــر­ى، يــقــول: «الـــتـــز­م كــاتــب األحرف رفـــاعـــ­ة بــــدوي رافــــع البــنــة خــالــه املــصــون­ــة الحاجة كريمة بنت العالمة الشيخ محمد الفرغلي األنصاري أن يبقى معها وحدها على الزوجية دون غيرها من زوجة أخرى أو جارية أياما كانت وعلق عصمتها على أخذ غيرها من نساء أو تمتع بجارية أخرى.. فاذا تزوج بــزوجــة أيــامــا كـانـت بـنـت خـالـه بـمـجـرد الـعـقـد خالصة بـالـثـالث­ـة وكــذلــك إذا تـمـتـع بــجــاريـ­ـة مـلـك يــمــني، ولــكــن وعــدهــا وعدا صحيحًا ال ينقض وال يخل أنها ما دامت معه على املحبة املعهودة مقيمة على األمانة والحفظ لبيتها وألوالدهـا ولخدمها ساكنة معه فـي محل سكناه لـن يـتـزوج بغيرها أصــال وال يتمتع بــجــوار أصال وال يخرجها من عصمته حتى يقضي الله ألحدهما بقضاء. هذا ما انخطت عليه العهود وشهد الله سبحانه وتعالى بذلك ومالئكته ورســلــه وإن فعل املــذكــو­ر خـالفـه كــان الـلـه تعالى هـو الوكيل العادل للزوجة املـذكـورة يقتص لها منه في الدنيا واآلخـــرة. (رفـاعـة بدوي رافــع، 14 شــوال .»)ــــه1255 من القالئل أيضا الذين دعــوا إلـى إعادة النظر في حكم تعدد الزوجات، والتضييق في هذه املسألة هو الشيخ محمد عبده الذي يرى أن التوسع في إتاحة التعدد قد يفضي لخراب البيوت وتفكك األسر، فدعا لتقنينه، وأفتى أنه يجوز للحاكم في هذا العصر منعه، واالستثناء منه فقط للضرورة، وهو ما ورد في أوراق نشرها صاحب املنار اإلمام رشيد رضا، الذي قال: «وجدت بني أوراق شيخنا األستاذ اإلمام محمد عبده الفتاوى اآلتية، فأحببت نشرها؛ لتصدي الحكومة املصرية لتقييد إباحة التعدد، وكثرة الكالم فيه».. ومـن هـذه الفتاوى سائل يسأل: هل يجوز تعدد الـزوجـات إذا غلبت مفسدته؟ فكان جواب محمد عبده: «أما (أوال)؛ فألن شرط التعدد هو التحقق من العدل، وهذا الشرط مفقود حتما، فإن وجد في واحد من املليون، فال يصح أن يتخذ قاعدة؛ ومتى غلب الفساد على النفوس، وصار من املرجح أال يعدل الرجال في زوجاتهم؛ جاز للحاكم، أو للعالم أن يمنع التعدد مطلقا مـراعـاة لألغلب. (وثانيا) قد غلب سـوء معاملة الرجال لزوجاتهم عند التعدد، وحرمانهن من حقوقهن في النفقة، والـراحـة، ولهذا يجوز للحاكم، وللقائم على الشرع أن يمنع التعدد دفعا للفساد الغالب. (وثالثا) قد ظهر أن منشأ الفساد، والعداوة بني األوالد هو اختالف أمهاتهم، فإن كل واحـد منهم يتربى على بغض اآلخر، وكراهته، فال يبلغ األوالد أشدهم إال وقد صار كل منهم من أشد األعداء لآلخر، ويستمر النزاع بينهم إلى أن يخربوا بيوتهم بأيديهم، وأيدي الظاملني، ولهذا يجوز للحاكم، أو لصاحب الدين أن يمنع تعدد الزوجات؛ صيانة للبيوت عن الفساد». يعلق صاحب املنار: «هذا نص الفتوى، وهي مبنية على قاعدة جواز منع كل مباح ثبت ضرر استعماله لدى أولي األمر، ومنه منع حكومة مصر لصيد بعض الطيور التي تأكل حشرات الزرع؛ فيسلم من الهالك، ومنع ذبح عجول البقر أحيانا للحاجة إليها في الزراعة مع قاعدة إعطاء الفساد الغالب حكم العام، ثم استثنى من منع تعدد الزوجات ما كان لغرض شرعي صحيح، وهو طلب النسل. أقول: ومثله ما كان لــضــرورة أخـــرى تـثـبـت لـــدى الــحــاكـ­ـم الــشــرعـ­ـي، وهذه الضرورات ال يسهل حصرها في عدد معني». وال يغيب عن قائمة اآلراء الـنـادرة في هـذه املسألة، الرأي األكثر شهرة وجدال، الذي تحول بعد وقت قصير من بثه ونشره، وبعد زمن يسير من تكفير صاحبه ونفيه ونبذه، إلى واقع قائم، وقانون سائد في بالده، وهو رأي اإلصــالحـ­ـي الـتـونـسـ­ي الـطـاهـر الــحــداد فــي كـتـابـه املثير (امرأتنا في الشريعة واملجتمع) -صدر عام -1930 الذي رأى فيه أن تعدد الزوجات في أصله عادة اجتماعية وليست دينية، وأن اإلسالم تعامل معها كما تعامل مع مسألة األرقاء والعبيد، وفقًا للوضع القائم، لكنه حبذ ورغــب في اإلعـتـاق، وأكــد على فضائل تحرير األرقــاء، يقول: «ليس لي أن أقول بتعدد الزوجات في اإلسـالم، ألنني لم أر لإلسالم أثـرا فيه، وإنما هو سيئة من سيئات الجاهلية األولى التي جاهدها اإلســالم طبق سياسته التدريجية. وكــان عامة العرب يــعــددون نـسـاءهـم بــال حــد الستعمالهن فــي خـدمـة األرض استغناء بهن عـن األجـــراء، وخـدمـة البيت واالسـتـمـ­تـاع، فجاء اإلســالم ووضع حدا لذلك (أمسك أربعا وفارق سائرهن)، ثم تدرج إلى اشتراط العدل بالتسوية بينهن، وجعل الخوف من عدم العدل كتحققه، كما في اآلية (فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثـالث وربــاع، فإن خفتم أال تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم...) تحذيرا لهم من عاقبة التعدد، ثم عبر عن تعذر الوفاء بشرط العدل بينهن مهما بذل فيه من الحرص (ولن تستطيعوا أن تعدلوا بني النساء ولو حرصتم)». لكن هـذه اآلراء في حينه وحتى اليوم مـازالـت محل رفـض وإشكال، فـ«امرأة الحداد أصابها الحداد»، كما جاء في الرد القاسي من الشيخ محمد الصالح بن مراد، ثم الشيخ عمر البري املدني الذي ألف كتابا في الـرد عليه بعنوان «سيف الحق على من ال يـرى الحق»، وانتهى الــحــال بـالـطـاهـ­ر الــحــداد بـعـد صـــدور كـتـابـه أن سحبت مـنـه الهوية اإلسالمية، وحكمت لجنة مكلفة من جامع الزيتونة بتكفيره، وحجز كتابه. * باحث وكاتب سعودي

 ??  ??
 ??  ??
 ??  ?? عبد اهلل الرشيد*
عبد اهلل الرشيد*

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia