.. حني ُتخفي احملبّة شروط األدب!
أنا ها هنا قصيدة أحبِّك لـ«ماريو بنديتي»
لم تعرف نفسي الحب في إطالقه، إال على وجـه االحتياج املطلق للخروج بها من دوائر الغم، ومغاليق الهم املطبق، ذلك لكون الحب - فيما أرى - معراج الــروح بسفينة القلب إلــى حيث الجمال املشهود فـي عظيم مـا خلق الـلـه وأبدع وصور.. إنها رحلة تكابد فيها النفس أشواقا مهولة، وتبتلى فيها بهواجس مقلقات، وتختبر بصنوف من األوصاب واملزالق، فإما ثبت القلب في مقام الهوى والحب، وإما انزلق، فليس ثمة إال ظالم مطبق، وجحيم متالف.. إنــه الحب إذن.. باعث الشجن، ومحرك األشــواق الحوارق، يتلمسه املحب في رضا املحبوب أينما كـان، وكيفما كان، وما عليه من بأس إن أذل النفس في حضرته، وإن شئت أن تدرك ذلك، فانظر إلى قول القائل:
مِمَِمِ ُُ ََ ََ ََ َْ َْ تذلل ملن تهوى فليس الهوى سهل
رضي املحبوب صح لك الوصل إذاُ ال تلق بالك لصوت من أوهمك بـ«عزة النفس» في هذا املقام حني تبلغ هـذا الـحـال، فــ«الـذل في مقام الهوى والـحـب عز وافتخار»، ألم تقرأ قول قائلهم: وما رمت الدخول عليه حتى حللت محلة َمِ العبدالذلي مِل وأغضيت الجفون على قذاها وصنت النفس عن قال وقيل
ّمِ هو الحب إذن.. ينسف كل القوانني، ويحطم كل املسلمات، ويــقــود الـنـفـس إلــى حـيـث ســار املــحــبــوب، يتلمس طريقه، ليل تشتت بالحنني، وفزع من هول املنام وجاء لـ يشعرك.
ّمِ قــد قـالـهـا الــســدانــي فــي عـــزف أوتار الهوى «قل ٌب تف ّرق في البالد لـ يجمعك» وأنـــــــا هــــا هــــنــــا ؛ أدنــــــــــدن بالشعر الفصيح معازف مبسمك. أنــا هــا هـنـا ؛مِ نـــور أضـــيء فــي الليل الكئيب موقد حجرتك. أنـا مِها ُهنا ؛ أم ولــدت لها طفال من رحم الفؤاد وجـــــئـــــت أحــــــــــــارب ألسعدك. أنـا ها هنا؛ روح أب تسقي سرابك، وإن أردت شع ٌب من قبائ مِل أسرتك. ضــــخــــم الحياة يداك هما شغفي هما أوتاري اليومية أحب مِك ألن يدي مِك تعمالن للعدالة نعم أحب مِك ألن مِك يا حبيبتي شريكتي وألنك الجميع وفي الطريق جنبًا إلى جنب نحن أكثر من اثنني عيناك هما تعويذتي ليوم سيء أحب مِك لنظرت مِك كأنك تنظرين وتزرعني املستقبل فم مِك الذي ل مِك ولي فمك ال يخطئ ويكابد األهوال في الوصول إليه.. ال والذي حجت قريش بيته
َْ َُّ َْ مستقبلني الركن في بطحائها ما أبصرت عيني خيام قبيلة إال بكيت أحبتي بفنائها أما الخيام فإنها كخيامهم وأرى نساء الحي غير نسائها ولتكن البوصلة مرسومة في شغاف قلبك وموسومة به، فما حق املحبوب أن تسأله عنه واصفا في الطريق، ولكن حقه عليك أن تستشعره بنور قلبك، وضياء بصيرتك.. فــاتــبــع الــنــبــض تــصــل، وأصــــخ الــســمــع لوجيب وجدانك تبلغ الغاية واملنى، وتذكر:
َْ سلم لسلمى وسر حيث سارت واتــبــع ريـــاح الـقـضـا ودر حيث دارت ومــــــــن عــــجــــب حني يــــــــــــــــــدرك الـــــقـــــلـــــب بغيته من اللقيا أن يــــــزداد ظمأ كـــــلـــــمـــــا رشـــــــف، وتــــــــتــــــــعــــــــاظــــــــم حــــاجــــتــــه كلما أعــــــــــــــطــــــــــــــي مــــــن الــنــوال والهبات الــشــوارق، فليس ثمة ارتواء، وليس أنــا هــا هــنــا؛ أتظنني صــــــــــمــــــــــاء ال أحـــــــســـــــن مسمعك؟ أنـــــا هــــا هـــنـــا ؛ مــــن ذا سـ يصغي لـ صوت تفجر في الضلوع وأرهقك؟ أنــا هـا هـنـا؛ صــدر تنزه في الغيوم لـ يمطرك. أنا ها هنا؛ ورد جاء من أقسى الحجاز لـ يزهرك. أنا ها هنا ؛ وإن تداعى حــزنــك الــطــاغــي، فـــ قلبي بالحضن يسكن مفجعك.
ُمِ أنــا هــا هـنـا ؛ أزمــلــك وأدثرك فأطمئنك، جعلتني «الــــروح» أفــال أكـــون مـــأوى وموطن مأمنك؟
_____________ * شاعرة سعودية أحب مِك ألن فم مِك يعرف الصراخ بتمرد نعم أحبك ألنك يا حبيبتي شريكتي وألنك الجميع وفي الطريق جنبًا إلى جنب نحن أكثر من اثنني ولوجهك الصادق وخطوتك املشردة وبكائك من أجل العالم وألنك الشعب أحبك وألن الحب ليس بهالة وال مغزى ساذجًا وألننا رفيقان فاعرفي أنك لست وحيدة أحبك في جنتي التي هي في بلدي حـــــيـــــث الــــــــنــــــــاس بسعادة رغــم أنـهـم لذلك نعم أحب مِك ألن مِك يـــا حــبــيــبــتــي شريكتي وألنك الجميع وفــــي الــطــريــق جنبًا إلى جنب نــــحــــن أكــــثــــر من اثنني يعيشون ال يملكون اإلذن
* مترجمة سورية ثمة اكـتـفـاء، فـإنـمـا هـي حـاجـة بتوق متالف: ومن عجب أني أحن إليهم واسأل شوقا عنهم وهم معي وتبكيهم عيني وهم بسوادها ويشكو النوى قلبي وهم بني أضلعي إنه التسليم املطلق، قانون الحب وسطوته، من كابر أخرج، ومن عاظل طرد، ومن عاكظ أبعد.. فافهم والتزم.. ألم يبلغك أن «املحبة تخفي شـروط األدب»، ذلك ألن الـــفـــرح بــهــا يــخــرج النفس عن أطوار ما اعتادت عليه مـــن مــســلــمــات العقل، وتـــــحـــــرك معاقد الــــــــــــلــــــــــــســــــــــــان إثــر حـاجـة، وتــوق موصول عـن جوهر اإلبـانـة السليمة، فما ثمة إال صمت مطبق، أو قـول محلول الـوثـاق من ميزان التقويم املعتاد.. فالصمت
ّّ مـجـلـوب الـدهـشـة وولــيــدهــا، فـلـو صــح قــول الــقــائــل: «كلما اتسعت الفكرة ضاقت العبارة»، فيصح عندي أيضا القول بأنه «كلما أضاء الحب باحة القلب وغرفاته كلما انمحت العبارة وأفسحت املجال لصمت متأمل، وذهـول في باحة الجمال».. وال يحملنك خطأ املحب في التعبير عن أشواقه وما يكابده من أوابد املحبة أن ترميه بالنقص، فذاك مقام يحس وال يوصف.. نعم إن املحبة تخفي شروط األدب التي اعتاد الناس عليها، وارتضوها قانونا معروفا بينهم، ولكنها في مقام الحب منسوفة مـن جــذورهــا، واألمثلة على ذلــك كثيرة وعديدة، يبلغ بعضها مبلغ «الشطح» املثير للقلق، واملحرك لنوازع نــفــور الـنـفـس عــن قـبـولـه، بحكم مــا اعــتــادت عليه فــي فلك الــحــيــاة املــســتــقــرة، وال أجـــد مــثــاال ناصعا النـــــفـــــراط عـــقـــد األدب فــــي حضرة املــحــبــوب مـــن ذلــــك األعرابي الذي قص النبي صلى الـــــــــلـــــــــه عليه
وســــــــلــــــــم قـصـتـه فــي الــحــديــث الــنــبــوي الــشــريــف، بصيغه املختلفة، ومنها، ما ورد في صحيح مسلم: عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قــال: قـال رســول الله صلى الله عليه وسـلـم: «لله أشد فرحا بتوبة عبده حني يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فالة، فانفلتت منه، وعليها طعامه وشرابه، فأيس منها، فأتى شجرة فاضطجع فـي ظلها، وقــد أيس من راحلته، فبينا هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده، فأخذ بخطامها، ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح». نـعـم إنــه الــحــب، ال نـسـوقـه بتخصيص، ولـكـن نبحث عنه بــــإطــــالق، نــتــلــمــســه فـــي الـــحـــيـــاة بــيــنــنــا، ونــشــيــعــه فـــي كل معامالتنا، ونطلبه في كل ما نقوم به، ولسنا في ذلك ملقني بالنظر أو االنتباه ملن ارتفعت «قرنا استشعاره» كلما سمع كلمة «الحب» فانحرفت مقاصد وعيه نحو عالقة العشق بني الرجل واملـرأة، حصرا وتقييدا، ورسمت شاشة خاطره صور االبتذال واملآثم وصورها بأبشع ما يكون التصوير، وجــعــل مــن مــفــردة الــحــب مـتـحـسـسـا يــفــك ســعــة خياشيمه بــالــعــطــاس املــســتــمــر، وأفـــرغـــهـــا مــــن مــضــمــونــهــا األجلى واألسمى إلى ضيق محصور، ومعنى مبتذل.. فما أحوجنا إلى الحب اليوم، وقد رانت على القلوب لبد املاديات، ولغة الحساب حتى في العالقة مع رب العباد، جل شأنه، وعظم مقامه، وعز إدراكـه، وأي نفع لعمل الغاية من أدائه انتظار الـثـواب، ولـم تخالطه بشاشة املحبة، وروح اإلذعــان طاعة للمحبوب ال غير، بال طمع في هذا وذاك.. فإن أعطى فذاك فضله، وإن حرم فتلك حكمته.