األهداف الرقمية والزمنية.. ضرورة املرحلة االقتصادية القادمة
فـــي ظـــل مـجـتـمـعـنـا واقـــتـــصـــادنـــا الــريــعــي طوال الـعـقـود املـاضـيـة، لـم تنتشر لدينا ثقافة االلتزام بمبادئ األهداف الرقمية والزمنية املحددة، والتي بموجبها يتحقق تنفيذ مختلف املـشـاريـع وفق جــداول زمنية واضحة تتبعها مساءلة في حالة خرقها وعدم الجدية في التطبيق. وعلى العكس من ذلك فإن ثقافة «ما لم يتم تنفيذه غدا، يتم بعد غد» كانت هي السائدة في ظل الفوائض النفطية الضخمة التي مـرت عليها بـادنـا، ورغــد العيش الذي كان يعيشه الكثير منا. وحيث إن املشاريع الحكومية كانت محور «عقد الـقـران» بني الفساد واملـشـاريـع، فقد كـان التفسير الـــــذي يــعــطــى لــتــأخــيــر تـسـلـيـم هــــذه املـــشـــاريـــع أو األخــطــاء الــتــي تـظـهـر فــي الـتـنـفـيـذ، هــو «إنـــه كان خارجا عن اإلرادة». وما ظهور العدد الكبير جدا من املشاريع املتعثرة إال انـعـكـاس لغياب املـسـاءلـة والـحـسـاب مـن جهة وعدم وجود تواريخ محددة لاستام والتسليم، ناهيك عن عدم وجود متابعة منتظمة من الجهات املختصة بهذه املشاريع، والتأخير املصاحب في دفع مستحقات املنفذين للمشاريع في أوانها، وقد وعــدنــا األمــيــر محمد بــن سـلـمـان فــي لقائنا معه بانتظام دفعات املتعاملني مع الحكومة، إضافة إلــى تـوسـيـع دائـرتـهـم وعـــدم االقـتـصـار عـلـى عدد محدود منهم. لــكــن الــــوضــــع كـــــان ال بــــد وأن يــتــغــيــر مــــع تغير أوضاعنا االقتصادية، واالنخفاض الكبير الذي لحق بأسعار مـوردنـا األسـاسـي وهـو النفط، مما حـــدا بـنـا إلـــى إحــــداث صــدمــة اقــتــصــاديــة قوامها التقشف وإيقاف نزيف الهدر املتبع سابقا، وتتبع الــفــســاد واملــفــســديــن أيــنــمــا كـــانـــوا، واضـــعـــني في أذهاننا أن هـذا هو العاج الناجع الوحيد الذي علينا تبنيه. ورأيــنــا أن ثقافة األهـــداف الرقمية والزمنية قـد بــدأت تشق طريقها فـي كـل مناحي تنميتنا االقتصادية وبرامجها. وهذه الثقافة وإن بدأت - على استحياء في مراحل سابقة - إال أنــه لـم يكتب لها الـصـمـود. ومــا زلت أذكـــر مــشــروعــا مـهـمـا ألمــانــة مـديـنـة مـــا، وضعت أمـامـه لـوحـة كبيرة تبني بـدقـة كـم الـزمـن املتبقي لانتهاء من املشروع: باأليام والساعات والدقائق والــثــوانــي. وفـرحـنـا جميعا بــذلــك، إال أنـنـا وبعد فترة مـن بــدء التنفيذ الحظنا أنــه تـم سحب هذه اللوحة، ففسرنا بأنها قد سرقت، وأنه سيتم وضع أخــــرى مـكـانـهـا وانــتــظــرنــا شـــهـــورا، واملـــشـــروع لم ينته وال تمت إعـادة اللوحة، فعرفنا أنها لم تكن سرقة للوحة بقدر ما هي تأخر مزمن في التنفيذ، وأعتقد أن املشروع لم ينته إلـى اآلن وربما أدرج مـــع بــقــيــة املـــشـــاريـــع املــتــعــثــرة. وأعــتــقــد أن مرور هــذه املـشـاريـع املتعثرة دون مـسـاءلـة، «وعـفـا الله عما سلف»، سيكون إيذانا باستمرار سـوء األداء والفساد.
والفساد هنا ليس بالضرورة فسادا ماليا بــل وأيــضــا اإلداري، واإلهـــمـــال والبيروقراطية وجميعها قــد أعــاقــت مسيرتنا وتـفـكـيـرنـا طوال الفترات املاضية. وتـــمـــر أمـــــام أعــيــنــنــا رؤيـــــة 2030 والـــتـــي ترسم خريطة طريق ملستقبلنا االقتصادي واالجتماعي بــأهــداف رقـمـيـة وزمــنــيــة افــتــقــدنــاهــا، بــل لــم نكن لـنـتـعـامـل مـعـهـا بــجــديــة فــي املـــاضـــي. وأصبحت املــســاءلــة فـــي إطــــار الـــرؤيـــة تـعـتـمـد وتـــقـــاس بما حـدد من أهــداف رقمية ومــاذا تحقق في كل فترة مـنـهـا، ومـــن املــســؤول عــن أي تـأخـيـر فــي التنفيذ والـتـسـلـيـم، وأصـبـحـت حـزمـة متكاملة ال تتجزأ. فــمــشــاريــع تـحـسـني جــــودة الـتـعـلـيـم هــي انطاقة لتوفير عمالة ماهرة ومدربة ومبتكرة ومبدعة. وتشغيل املطارات والقطارات املعطلة يحقق هدف الـ 30 مليون حاج ومعتمر كهدف يجب ان يتحقق بحلول عام ..2030 وهكذا. وأصــبــح املــســؤولــون مــن وزراء وغـيـرهـم بـعـد كل مــســاءلــة لــهــم فـــي مــجــلــس الـــشـــؤون االقتصادية والـتـنـمـيـة، يـتـرقـبـون أوامــــر ملكية باستبدالهم، فالوطن والحمد لله مليء بالقيادات والكفاءات فـــي كـــل املــــجــــاالت. وأصـــبـــح املــــســــؤول الحكومي خلية نحل ال تهدأ أو هكذا أتصورهم في عملهم في مزرعة الـدوائـر الحكومية. فليس لدينا وقت الرفاهية الكافي للتمهل في تطبيق برامج الرؤية أو ارتكاب أخطاء هنا أو هناك. واملواطن يود أن ترى هذه البرامج النور اليوم وليس غدا، وبالتالي فـإنـه ومــن منطلق وطـنـي يـحـرص بموجبه على هذا الوطن الغالي ومستقبله هو يستعد ومتقبل انتظار األعـــوام الـقـادمـة لتبدأ بشائر ونتائج ما تحقق من خطة التحول الوطني املوعودين بها بحلول عام .2020 وكــان لـي كما كــان لغيري فـرصـة أخـيـرا لاطاع عـــلـــى بـــــرامـــــج قــــيــــاس األداء لـــبـــعـــض الــــــــــوزارات الحكومية والتي كانت مفصلة وسهلة املتابعة، يـتـبـني مــن خـالــهــا املـــواطـــن الـــعـــادي مــا يــجــب أن يـتـحـقـق فــي كــل مــرحــلــة، ومـــا هــي الــعــوائــق التي قــد تـواجـهـهـا هــذه الـجـهـة أو تـلـك وســبــل التغلب عليها. واستبشرت خـيـرا بـهـا، وإن كــان التسليم لهذه البرامج واملشاريع هو الفصل والحكم على إجمالي حسن أو سوء األداء. وأخــتــتــم بــــأن أقـــــول إن اعــتــمــاد ثــقــافــة األهـــــداف الرقمية والزمنية املـحـددة سهل مـن التعامل مع رؤيتنا 2030 من حيث املتابعة املرحلية واملراقبة واملــســاءلــة، وأيــضــا سـهـل لـلـمـواطـن أن يــعــرف ما تـم إنـجـازه ومـا لـم يتم ومـن املـسـؤول. وكـل الدول املتقدمة تتبنى هــذه الثقافة بتقديس كبير وال تقبل أعذارا واهية للتأجيل واملماطلة، أو أن تكون مدخا للفساد الذي عانينا منه طويا. وكلنا مع الوطن في السراء والضراء.
)*( مستشار اقتصادي ونفطي