عجز موارد التأمينات االجتماعية بني الواقع والتصريحات!
لــم يفاجئني إعــالن املـؤسـسـة الـعـامـة للتأمينات االجتماعية في وسائل اإلعالم قبل أيام بأنها لن تتمكن مستقبال من دفع تكاليف التقاعد املبكر؛ بل إن ما فاجأني في ذلك اإلعـالن هو إشـــارة املؤسسة إلــى أن اسـتـمـرارهـا فـي دفــع تلك التكاليف سيتطلب دعـمـا من ميزانية الــدولــة!، املـؤسـسـة بـــررت ذلــك بـكـون التقاعد املـبـكـر يستنزف %63 من إجمالي املعاشات التي تدفعها للمتقاعدين مبكرًا، في حني أن عددهم يبلغ %35 فقط من إجمالي املتقاعدين. ويبدو أن املؤسسة بذلك القول «املستغرب» الـذي يأتي في هذا التوقيت املالي االستثنائي الذي تشهده املالية العامة للبالد، تحاول أن تجير إلى الدولة حال واحـــدًا مــن أبـــرز إخـفـاقـاتـهـا، وأقــصــد بـذلـك عــدم قـدرتـهـا عـلـى االرتــقــاء بأدائها االستثماري الضعيف ألصولها الضخمة التي تناهز نحو 540 مليار ريال، إذ بلغ عائد تلك األصــول نحو %3 فقط! أو مــا يــعــادل 14.4 مـلـيـار ريـــال؛ وفــقــا آلخر تقاريرها الذي تمت مناقشته في مجلس الشورى أخيرًا. وال حــاجــة لـلـقـول إن مــعــدل عــائــد أصول املــؤســســة (الـــتـــي هـــي أمــــــوال املشتركني) يعتبر ضئيال جـدا، وهو ما يعكس خلال كبيرًا ومزمنًا في إدارة تلك املبالغ، إذ يقل عن (نصف) املتوسط العاملي للعوائد الـتـي تحققها صناديق التقاعد فـي الكثير مـن دول الـعـالـم، فـي حـني أن هناك صـنـاديـق تصل نسبة عـوائـدهـا إلــى %12 سنويًا، لذلك لـم يكن غريبا أن تذكر املؤسسة بأن تقديراتها أظهرت ارتفاع العجز اإلكتواري إلى 134.9 مليار ريال. العجز اإلكتواري السابق ضخم بالتأكيد، ويمثل %25 من إجمالي أصول مؤسسة التأمينات، وال يمكن التقليل من خطورته، إذ إن بلوغ نسبة العجز %10 فقط في صناديق التقاعد في الدول املتقدمة وبعض الدول النامية يعتبر بمثابة جرس إنذار ومؤشر على وجود خلل كبير يستوجب سرعة اإلصالح، وال يتوقف األمر عند ذلك بل إن ذلك العجز في تزايد، إذ كان مقداره 120 مليار ريال في التقرير السابق للمؤسسة؛ أي أنه ارتفع بنسبة %11 تقريبا خالل عام واحد!. حسنًا، ماذا يعني ذلـك؟، يعني أن استمرار نمو العجز بتلك الوتيرة املتسارعة ســيــؤدي بـعـد بضعة عــقــود فــقــط؛ وتــحــديــدا فــي عــام 6741هــــــ، إلــى عــدم كفاية االشـتـراكـات الجديدة وعـوائـد استثمار األصــول، لتغطية مصاريف املعاشات، وهو ما سيضطر املؤسسة حينئذ لبيع جزء من أصولها لتغطية العجز!، ليس ذلـك فحسب بل إن الوضع قد يصبح أكثر سـوءا بسبب تزايد اعتماد املؤسسة في تغطية عجزها املتزايد سنويًا، على مبالغ االشتراكات الجديدة؛ نظرًا لتدني عوائد االستثمار من جانب، ونمو النفقات الرتفاع عدد املتقاعدين من جانب آخر. وبناء عليه، ِّفإن مشكلة صندوق التأمينات االجتماعية ال تقتصر على معضلة التقاعد املبكر فقط؛ كما تزعم املؤسسة، بـل يمكن إيـجـاز أهـم تحدياتها فيما يلي: 1ـــ ضآلة نسبة عائد االستثمار سبقت اإلشارة. 2ــــ تناقص أعـــداد املشتركني ألعداد املتقاعدين. 3ــ ارتفاع تغطية عجز مخصصات املشتركني الحاليني من مساهمات املشتركني الجدد للنظام. ومن جانبه، حاول معالي محافظ املؤسسة األستاذ سليمان القويز في حديثه الــذي يقل عـن الـجـدد لنظام عـوائـد املؤسسات املشابهة؛ كما الـتـأمـيـنـات، مقابل الــزيــادة املطردة املنشور في «عكاظ» يوم أمس األول الخميس التقليل من أهمية العجز اإلكتواري للمؤسسة حيث قـال: «إن العجز ليس نقديًا حاليًا وإنما عجز مستقبلي لدفع مـنـافـع األجــيــال الــقــادمــة»، كـمـا سـبـق لــه الـتـأكـيـد خــالل نـــدوة االســتــقــرار املالي املنعقدة في الرياض بتاريخ 25 أكتوبر املاضي على أن: «مؤسسة التأمينات ليس لديها عجز، بل تحقق فائضًا، وإن املؤسسة ال تمس عوائد استثماراتها، حيث يعاد استثمارها بهدف حفظها للمستقبل»!، ورغم ذلك فإن من املوضوعية عدم تحميل اإلدارة الحالية للمؤسسة هذا التدهور كونها لم تتول املسؤولية إال من فترة قريبة. وتأكيدًا لتفاقم العجز وعدم دقة املعلومات أعاله؛ فإنني اقتبس هنا جزءًا هامًا مـن مـداخـلـة عضو مجلس الــشــورى، االقـتـصـادي الـدكـتـور سعيد الشيخ خالل مناقشة تقرير املؤسسة تحت القبة حيث قال: «إن مقدار العجز اإلكتواري ملوارد
املقدر؛ إذ إن املؤسسة سوف ُيكون أعلى من املبلغ ذلك العجز قد بني على افتراض متفائل؛ يستند إلــى أن عــوائــد اسـتـثـمـار أصـــول املـؤسـسـة ستنمو بنسبة 7%، في حني أن املعدل السنوي لنمو عوائد استثمار السنوات الخمس املاضية لم يتجاوز الـ5 %، وعليه فإن تاريخ اضطرار التأمينات لبيع جزء مــن أصـولـهـا سـيـحـدث قـبـل الــتــاريــخ الـــذي ذكرته @gbadkook
املؤسسة في تقريرها». وتأكيدًا لذلك أشار الدكتور الشيخ إلى أن: «مصروفات املؤسسة في سنة التقرير بلغت نحو7.91 مليار ريال، في حني أن عائد استثماراتها بلغ لنفس العام 14.4 مليار ريـال، وبالتالي فإن الفارق بني الرقمني وهو حوالي 5.4 مليار ريـال، قد تمت تغطيته من مبالغ االشتراكات الجديدة التي كان يتعني استثمارها ألولئك املشتركني عوضًا عن دفعها لتغطية العجز!». والوضع كذلك فإن الحل في تقديري هو: 1ــ حتمية تحسني األداء االستثماري ألصول املؤسسة؛ بهدف زيادة العوائد حتى تصل على األقل للمعدل الدولي للمؤسسات املشابهة وهو 7ــ %8 سنويًا، وتعزيز الشفافية واإلفــصــاح عــن أعــمــال املـؤسـسـة، وتــحــري املـصـداقـيـة فــي تصريحات مسؤوليها. 2ــ وجوب تعزيز الحوكمة الداخلية على استثمارات املؤسسة، من خالل إنشاء جــهــاز رقــابــي مستقل عــن لـجـنـة االســتــثــمــار؛ يـرتـبـط مــبــاشــرة بمجلس اإلدارة ويتولى وضع اإلستراتيجية االستثمارية، ويضم ممثلني للمشتركني؛ من ذوي الخبرة واالختصاص. 3ـــ أهمية إنـشـاء هيئة رقابية (خـارجـيـة) لـإلشـراف على أداء صناديق التقاعد في البالد، بحيث تتولى املتابعة واإلشــراف على االستثمارات، على أن تتمتع بالصالحيات الـالزمـة والحيادية التامة، ويفضل أن ترتبط بمجلس الشؤون االقتصادية والتنمية. وفــي تــقــديــري، فـإنـه بـــدون دراســـة اإلجـــــراءات الـسـابـقـة جــديــًا، قـبـل تطبيقها أو تطبيق مـاهـو أفـضـل منها، ستستمر التحديات الـتـي تـواجـه املـؤسـسـة العامة للتأمينات االجتماعية في التضخم، وستتزايد مشاكلها باضطراد، في حني سـتـكـون الـحـلـول (الـنـظـامـيـة) الـتـي «تـسـعـى» املـؤسـسـة لتنفيذها (عـبـر مجلس الشورى) للحد من التقاعد املبكر، هي بمثابة إجراءات هشة وغير كافية، كونها ال تراعي املتغيرات االجتماعية وال األوضاع االقتصادية التي تمر بها اململكة، وسيبقى الخلل دون حل.