Okaz

ناصية العقل

-

آفـــة الــــرأي الـــهـــو­ى، حـكـمـة مـــأثـــو­رة مـنـذ زمـــن بـعـيـد كـــان فـيـه الـعـقـل سـيـد الـــــرأي، وكان الـهـوى استثناء مستهجنا ومكشوفا، ومحسورا أمــام الـوعـي الفكري والـــدور األسري واالجتماعي، وكذلك وضوح مصادر الفتوى من العلماء والدعاة املوثوقني، لكن العوملة وثورة املعلوماتي­ة الجارفة وتقنيتها املتطورة يوما بعد يوم جعلت عامة البشر (في الهوى سوا) إال من رحم ربي وامتلك ناصية العقل والقيم. آفة الهوى تأكل عقول البشر وتطحن نفوسهم وتوهن عزيمتهم، وأربكت املجتمعات ومسخت الكثير من القيم وشوهت مبادئ وأضاعت االستقرار النفسي واالجتماعي بفنت الجهالة وعصبية الجاهلية، وقد كثر هوى الرأي والفتاوى في كل شيء وكل مجال دون علم وحقائق وتثبت من أهل العلم الثقاة، إال من رحم ربي. أصبح من املعتاد في أمتنا أن تقرأ وتسمع نشازًا ممن امتطوا الفتوى والرأي إلكترونيا وفضائيا ببضاعة مزجاة وبجرأة عجيبة ومؤسفة، وها هو الخطر األكبر الكامن في الفكر الضال الخارج عن جماعة املسلمني، ورويبضة يفجرون قضايا خالفية ويشعلون الفنت بالتشكيك والتشويه. االختالف في الرأي واألجناس واألعراق واألمم هو من سنن الخالق عز وجل (وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم) هكذا أراد الله لعباده التعارف، والفوز في ذلك للمتقني ال الخوارج واإلقصائين­ي. فهذا الطوفان املعلوماتي الهائل دون انضباط وال ضوابط كافية جعل املجتمعات تكتوي بهوى الرأي وسط الصخب املتزايد بعصبيات الجاهلية التي جعلت األجيال الجديدة فريسة لهذا الطوفان، وكادت تفقد مفاتيح الرأي الصحيح وقيم الحوار، وباتت اإلساء ة واإلشاعة أسرع وأنكى. هذا هو هوى الرأي وقاموس مفرداته، وفي الحديث الشريف «إن الرجل ليتكلم بالكلمة ال يرى بها بأسا يهوي بها سبعني خريفا في النار». فـإذا كانت الحكمة وقيم الحوار لهما ضوابط أصيلة ويلزمهما وعـي وصبر وإرادة، فـإن للهوى في عصرنا ألـف باب ملعارك جدلية ال تفيد وال تبني، وباتت الكلمة سالحا إلكترونيا خطيرا يقذف بها كل صاحب غرض ومرض وكل جاهل معجب برأيه، وبهذا تضيع منا أجيال كانت األسرة واملدرسة واملنبر حصنهم التربوي لثقافة الحوار والتسامح، لكن كل هذه الحاضنات التربوية أصابها االرتباك أمام سطوة العالم االفتراضي وما يقال فيه ويرى ويحدث من آثام وشطحات تحت سمع وأبصار الصغار قبل الكبار، عالم منفتح ومنفلت وفاضح ومشتبك ومتصيد للعقول الغضة في هـدم األخــالق والتعاليم اإلسالمية الصحيحة، دون تحصني كاف من األسرة وغيرها، بل أكثرها في حالة غفلة وثبات. والهوى ليس فقط في الرأي، إنما في األفعال بتضييع حقوق وأعمال ومصالح، فصاحب الهوى أيضا هو الـذي ال يتقن عمله وال يؤديه إال عندما يـرى رئيسه، وهـو أيضا من يزوغ من عمله إذا اطمأن أنه بعيد عن عني املسؤول ولن يسجل خروجه من العمل. وصاحب الهوى من يسهر لساعات طويلة من الليل ويذهب لعمله صباحا وهو مثقل الـدمـاغ مضيع ذهـنـه، وهــي ظـاهـرة منتشرة لــدى الصغار والكبار بسبب هــوى إدمان اإلنـتـرنـ­ت والـتـواصـ­ل االفـتـراض­ـي دون وعــي، وأصـحـاب الـهـوى كذلك الـذيـن تحلو لهم الغفوة والـنـوم فـي مؤتمرات ومـحـاضـرا­ت أو انشغالهم بجواالتهم حتى أثـنـاء قيادة السيارة طوال الطريق، دون إدراك أو التزام بحق الطريق فيقع ما يقع من حوادث. هؤالء من أصحاب الهوى، عصمنا الله منه. قال تعالى (وأما من خاف مقام َربه ونهى النفس عِن الهوى فإن الجنة هى املأوى).

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia