Okaz

.. أزمة العائدين من اجلماعات اإلرهابية

- arash5@hotmail.com * باحث وكاتب سعودي

في فيلم بعنوان (التائب) يقدم املخرج الجزائري مرزاق علواش ملحة حزينة مفعمة باألسى مليراث العشرية السوداء التي حلت بالجزائر في التسعينات امليالدية، وما زالت تبعاتها تخيم بغيوم سـوداء متفرقة متناثرة على سماء البلد الذي يحاول طي تلك الصفحات إلى األبد. الفيلم الـذي صدر عام ،2012 وفـاز بمهرجان الدوحة السينمائي ترايبكا، وجال وطــاف بـن املهرجانات السينمائية فـي الـعـالـم، أثــار العديد مـن الـجـدل واألسئلة والتحفظ، والنقد، باعتباره يالمس منطقة حساسة في التاريخ الجزائري الحديث، ويفتح الباب على مصراعيه في خالصة فيلمه على مستقبل غامض يشوبه الظالم، يوحي بــأن دوامــة العنف مـا زال رصاصها يــدوي، وقــد يعود يوما إلــى شراسته املؤملة. يبدأ الفيلم بنص افتتاحي: «في إطار سياسة (العفو والوئام الوطني) نداء وجه لإلرهابين اإلسالمين إليقاف القتال من أجل االلتحاق ببيوتهم. الذين لبوا النداء لقبوا بـ(التائبن).. اإلسالميون الذين اختاروا الكفاح املسلح غادروا الجبال مجموعات أو فرديا». سياسة العفو الوطني التي ينطلق منها الفيلم تشير إلى املشروع األول الـــذي حـــاول إنــهــاء مــأســاة الـعـشـريـ­ة الـــســـو­داء، وهــو قانون (الوئام املدني) الذي أقره الرئيس عبدالعزيز بوتفليقه عام 1999 فور توليه الحكم، من أجل إقامة مصالحة وطنية شاملة، ومحو آثــار العشرية الــســودا­ء الـتـي مــرت على الـجـزائـر (ديسمبر 1991 - فبراير ،)2002 الـتـي اندلعت بعد فــوز اإلسـالمـي­ـن فـي االنتخابات، حـن حققت الجبهة اإلسـالمـي­ـة لإلنقاذ فــوزا مـؤكـدا فـي االنتخابات الــبــرمل­ــانــيــة ،1991 األمــــر الــــذي حـــدا بـالـجـيـش أن يــنــزل إلـــى الشارع ويسيطر على البالد، ويعتبر نتائج االنتخابات الغية، وتم حظر الجبهة اإلسالمية لإلنقاذ، ما حدا باألوضاع إلى تخرج عن السيطرة، يصبح السالح والعنف فيها سـيـد املــشــهـ­ـد، فــبــدأت فـصـائـل مــن الـجـبـهـة وجــمــاعـ­ـات مــوالــيـ­ـة لـهـا بـحـمـل السالح والــقــيـ­ـام بعمليات قــتــل، واســتــهـ­ـداف للمنشآت الــعــامـ­ـة، فتحصن أفـــراد الـجـمـاعـ­ات املسلحة بـالـجـبـا­ل، بــدأ الــصــراع بـن الجماعات املسلحة وأفـــراد الجيش، ثـم اسـتـهـداف الـرمـوز املدنية للحكومة، إلى أن تطورت املسألة منذ عام 1997 إلى منعطفات أنكى وأبشع، حيث بــدأت سلسلة مـن العمليات التي استهدفت املدنين رجاال ونــســاء وأطــفــال، وكــان الــذبــح الطريقة الـشـائـعـ­ة، وحــدثــت مجازر عديدة قامت بها الجماعات املسلحة في القرى واملدن الجزائرية. حصيلة تلك العشرية الـسـوداء كـان مـروعـًا، آالف األرواح أزهقت، الـجـسـور واملــنــش­ــآت نـسـفـت، وأنــهــار مــن الــدمــاء ســالــت، حـيـث بلغ مجمل الضحايا 200000 قتيل أو يــزيــد، مــن مختلف األطراف بينما كانت الخسائر املادية تفوق 20 مليار دوالر. حاول قانون الــوئــام املـدنـي أن يستعيد الحياة للبالد، كما فـي مـادتـه األولى التي يرد فيها أنه في «إطار الغاية السامية املتمثلة في استعادة الـوئـام املـدنـي، يهدف القانون إلـى تأسيس تدابير خاصة بغية توفير حلول مالئمة لألشخاص املورطن واملتورطن في أعمال إرهاب أو تخريب، الذين يعبرون عن إرادتهم في التوقف، بكل وعي عن نشاطاتهم اإلجرامية، بإعطائهم الفرصة لتجسيد هذا الطموح، على نهج إعادة اإلدماج املدني في املجتمع. ولالستفادة من أحكام هذا القانون يجب على األشخاص املذكورين في الفقرة أعاله إشعار السلطات املختصة بتوقفهم عن كل نشاط إرهابي والحضور أمامها. كما يستفيد األشخاص املذكورون أعـاله، وفقا للشروط التي حددها هذا الـقـانـون، وحسب الحالة، مـن أحــد التدابير اآلتـيـة: اإلعـفـاء مـن املتابعات، الوضع رهن اإلرجاء، تخفيف العقوبات». حقق هذا القانون نجاحًا نسبيًا، وشهدت البالد إلقاء للسالح من قبل بعض املتطرفن، وعودة مجموعات منهم إلى قراهم وذويهم، لكنه في املقابل اصطدم بعوائق أخرى، فاستجابة املقاتلن له لم تكن شاملة حيث استجاب 6500 من .20.000 لهذا استمر الوضع األمني في التردي من جديد وفي كل مرة تفاجأ الدولة بهجمات على جنودها ومنشآتها. فقد كان قانونا محدود الـزمـان، أخفق في معالجة األزمــة جذريا كما أن بعض املسلحن الذين استفادوا من القانون وتخلوا عن الـسـالح، سرعان ما عــادوا إلـى حمله من جديد. لذلك تال هذا املشروع، (ميثاق السلم واملصالحة الوطنية)، وهو امليثاق الذي حاول تقديم حـل جــذري لـألزمـة مـن خـالل منح عفو لإلسالمين عـن معظم أعـمـال العنف التي ارتكبوها، إذ تم إجراء استفتاء عام عليه في 29 سبتمبر ،2005 وقد حصل امليثاق خالله على موافقة بنسبة ،%97 وتم تنفيذ امليثاق بوصفه قانونا في 28 فبراير .2006 وكان من أهم أهدافه: «تحقيق السلم وتوقيف القتل واستدراج اإلرهابين إلى الدولة، تحقيق املصالحة الوطنية، الحفاظ على تماسك املجتمع، عرفان األمة الـجـزائـر­يـة بمن وقــف منها فــي وجــه اإلرهــــا­ب، وضــع آلــيــات عدم تكرار التجربة االرهابية من جديد». بالعودة إلى فيلم (التائب).. تبدأ مشاهده األولــى مستندة إلى هذه الخلفيات التاريخية من األزمة والصراع واملصالحة.. اللقطة األولى: شــاب يــهــرول هـابـطـا مــن جـبـل يـكـسـوه الـجـلـيـد، متجها صــوب قريته وأهله، إال أنه يواجه بالرفض والطرد من قبل بعض أبناء قريته ألنه قـاتـل، فيضطر للنزول إلــى املـديـنـة، يسلم نفسه إلــى مـأمـور الشرطة، يسلم سالحه، مستفيدا من قانون الوئام املدني، بعد ذلك يساعده املــأمــو­ر فــي الـحـصـول عـلـى عـمـل فــي مـقـهـى، حـتـى يـنـدمـج الشاب التائب في حياة املجتمع ويستطيع أن يعول نفسه. وهنا تبدأ األزمة املعقدة، التي يتعمد املخرج تركيبها بحالة من الغموض والتداخل والتعقيد حـول شخصية هـذا التائب التائه، التي تتنازع بن قسمات وجهه التناقضات، بن بـراءة يجسدها وجهه الطفولي وشقاء وبؤس وحيرة، ونظرة ثعلبية تنم عن دهاء ما يتسلل خلف هذه املالمح، ما يجعلك تتساء ل في كثير من اللحظات هل هذا التائب ضحية أم مغرر به، أم ما زال مجرما، هل هو تائب عجز عن االندماج في املجتمع، أم أن كل ذلك مخطط من قبل ألجل تنفيذ غاياته املبطنة. يبدأ الشاب (رشيد) عمله، يستقبله صاحب املقهى بقسوة، ينظر إليه بشزر، ويقول: «أنت ستعمل هنا. لكنك لست أخي». ثم يطالبه بأن يحلق لحيته حتى ال يجلب إلى مقهاه املشاكل. يبدأ رشيد حياته الـجـديـدة، يستيقظ الـصـبـاح، يستقبل زبائن املقهى القليلن، يشعر بنظرات الـنـاس الغريبة املرتابة نحوه، يـسـتـرق لـحـظـات قليلة لـيـشـاهـد الـتـلـفـا­ز الـصـغـيـر املــوجــو­د في الــزاويــ­ة، ثـم فـجـأة يتجمد ببصره أمــام مشهد فتيات صغيرات يعبرن أمــام املقهى وقـت خروجهن من املـدرسـة. يراقبه صاحب املقهى في غيظ، ثم يهمس لصديقه الجالس بجانبه: «أنظر إليه ستخرج عينيه من مكانهما»، يضحك صديقه ويقول: «ربما لم يكن عندهم في الجبل نساء». يوما بعد يــوم، يشعر رشيد بالضجر وامللل من الحياة الرتيبة الــجــديـ­ـدة، هــنــا تــنــحــر­ف أحـــــداث الـفـيـلـم إلـــى مــســار آخــــر، ينقلب «الـتـائـب» إلـى شخص مختلف، تـأخـذك األحــداث إلـى خيوط غامضة متداخلة، ال تعرف هل هذا «التائب» هو مجرد مجرم عادي، أم إرهابي! يختتم الفيلم مشهده األخير بصوت رصـاصـات قاتلة، وظــالل ملسلحن يعبرون الجبل، نهاية مفتوحة، ربما كان غايتها أن ترمي حجرًا في بركة الصمت، وتعيد التساؤل حول حقيقة توبة الجماعات املسلحة، وهل ستجدي املصالحة وسياسة العفو نفعًا، أم أن عقولهم ال تفقه إال منطق العنف!

 ??  ??
 ??  ??
 ??  ?? بوستر فيلم التائب.
بوستر فيلم التائب.
 ??  ?? عبد اهلل الرشيد* ALRrsheed @ twiteer
عبد اهلل الرشيد* ALRrsheed @ twiteer

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia