كيف صرت كاتبة؟
يـــنـــزع ضـــيـــف فـــهـــد إلـــــى تـــنـــويـــع أســـالـــيـــب الكتابة ومناخاتها عبر نصوص مجموعته األخيرة «جدار على امتداد العالم» (نشر مشترك: نادي مكة الثقافي األدبي، مؤسسة االنتشار العربي - ٧١٠٢) إذ ال يسير قـلـمـه، وال يـسـيـل حــبــره، عـلـى ســويــة واحــــدة إن في الفكرة أو بناء النص. ثمة تنقل وارتحال، واختبار وتــجــريــب، بــل واالنـــزيـــاح أحــيــانــًا إلـــى الـشـعـر ليس كحالة وحسب ولكن كنص شعري قائم برأسه. وفي جميع هذه التلوينات تبقى الدهشة، مالزمة، تبرق مـع كـل خـيـار كتابي يلجأ ضيف فهد إلـيـه. ذلــك أن حادي املتعة واالكتشاف، فيما ينكتب النص، ملمح جـوهـري يـتـردد صــداه؛ كأنما الكاتب مصحوبًا بــأنــاه الــقــارئــة؛ يـكـتـشـفـان الــنــص مـعـًا فتلمع العيون بالدهشة ذاتها وفي الوقت نفسه عند االثنني. وتعود تــلــك الــحــريــة فـــي التنويع، ربما في أكثر من طيف فيها، إلى ما أحسبه «يوميات» يدونها الكاتب وتتضمن تفاعله مـــع الــعــالــم كمفردات - ولــــــيــــــس بشكل كلي - يطالعها فــــــــــيــــــــــشــــــــــرع نــــــــوافــــــــذ
ًً وعــيــه؛ ّّ يـتـأمـلـهـاحـيـنـًا ويـنـفـعـل مـعـهـا تــــارة أخرى.. ُُ ُُ ودأبــــــــهفـــي الــحــالــني الــحــفــر والــتــحــلــيــل عــلــى نحو خـاطـف؛ تكثيفًا واخــتــزاال. .. هـي «يـومـيـات» بمثابة وقــفــات مقتطعة مــن املـشـهـد الـكـبـيـر، يــأخــذ بعزلها وإعـــــادة قــراءتــهــا؛ تــأمــال وتـــأويـــال. ال يــقــف عــنــد ما تسلم به العني وتستقبله األذن، ويستقر في الذهن باعتباره بديهية ال تحتاج إلـى مراجعة وال إعادة ســـؤال وتــدبــر. يـحـرك ضيف فهد مـفـردتـه الـتـي ظفر بها في يومه ذاك، ويخض سياقها طارقًا وجهًا آخر من املعقولية أو الالمعقولية، ومطلقًا شعاعه الذي يــقــول دائــمــًا «ولــــم ال؟». يـقـف عـنـد «جــريــمــة بشعة» - فــي «تــعــريــف» ص ٧٥ - فـيـسـتـدعـي وجــهــًا غائبًا يتطلبه التعبير بالضرورة. فإذا كان جرى التوافق عــلــى أن هــنــاك جــريــمــة بــشــعــة؛ فـــإن ســلــم «تصنيف الــجــرائــم» ينبغي أن يحمل فــي تضاعيفه «جريمة غـيـر بـشـعـة» تصبح مـنـفـذًا للمحامني إلــى تخفيف األحكام التي ينالها املجرمون، ومن ثم ينفتح باب التحايل القانوني لتحويل معنى الجريمة مما يوقع القضاة في مــأزق. وباملثل، تمر بنا مقولة األمل واالصطبار والتبشير بالضوء في آخر الــنــفــق؛ فـيـسـخـر مـنـهـا الــكــاتــب. ما فــائــدة ضـــوء وهـــو ٌٌ بـعـيـدعنك. ليس معك. أنت محجوز في النفق ولــن تتيه أكـثـر من هذا التيه الذي أنت فيه، وحـــتـــى لـــو ََ اصطدمت بـــــجـــــدرانـــــه؛ فإن هذا االصطدام لن يعوقك وسترد
إلـــى املسار اللغة شيء أساسي وشخصي للكاتب مثل الدم تماما، إنني أقيم في كالفورنيا وهي مكان يتحدث اإلنجليزية ولـكـنـنـي أسـتـطـيـع فـقـط الـكـتـابـة بــاإلســبــانــيــة، فــي الحقيقة.. كــل األمــــور املــحــوريــة فــي حـيـاتـي تــحــدث بـاإلسـبـانـيـة كتوبيخي ألحفادي، وطبخي، وحتى ممارستي للحب. وربما هذه هي النقطة التي أود أن تخبركم كيف؟ وملاذا صرت كاتبة؟! يبدو أن حياتي تدور حول األلم، والخسارة، والحب، والذاكرة. األلم والخسارة هما املعلمان اللذان يجعالني أكبر، بينما الحب يساعدني على التحمل ويمنحني الفرح (أعلم أن هذا يبدو مبتذال). الذاكرة هي املادة الخام لكل كتاباتي. لقد ولـدت أثناء الحرب العاملية الثانية. (إنني أبـدو جيدة مقارنة بعمري، وهـذا يكلفني الكثير من املال والعمل) نعم.. أنا شمطاء وأبدو من بقايا األهرامات ولكن الشيخوخة لم تداهمني بعد. لقد نشأت في عائلة بطريركية إذ كان جدي في املرتبة الثانية فيها بعد .)( أمي تزوجت رغما عن جدي الرجل الخطأ، والذي صارْ فيما بعد أبي. أثناء قضائهما لشهر العسل كـان أبـي يشعر بــدوار البحر ومـع ذلـك تمكنت أمـي من أن تحبل بـي. في السنوات الثالث التي تلت هذا انفصال كثيرا عن بعضهما، ولكن التقاؤهما القليل جعلهما يحظيان بطفلني آخرين. (الخصوبة عالية في عائلتي، أنا محظوظة ألنني أصبحت أنثى ناضجة في عصر حبوب منع الحمل). كان زواج والدي كارثيا منذ البداية، ففي أحد األيام وفي عيد ميالدي الثالث، ذهب أبـي لشراء السجائر ولـم يعد أبــدا. كانت تلك أولى خساراتي العظيمة في الحياة، ولـذلـك ربما ال أستطيع أبــدا الكتابة عن اآلبــاء. هناك العديد من األطـفـال اللقطاء في كتبي والذين أستطيع أن أبتدئ بهم دارا لأليتام. ترك أبي أمي عالقة في بلد أجـنـبـي وبـرفـقـتـهـا ثــالثــة أطــفــال صغار. مــا جـعـل األمـــور أكــثــر ســـوءا، أنــه لــم يكن يوجد طالق في دولة تشيلي، إنها الدولة الــوحــيــدة فــي املــجــرة دون طــالق (أصبح الطالق في تشيلي أخيرا قانونيا في عام 4٠٠٢). بطريقة ما تمكنت أمي من فسخ زواجها، وبالتالي أصبحت أمــًا وحيدة مع ثالثة أطفال غير شرعيني. لم يكن لديها املال، كانت تملك القليل من التعليم وال تملك أي مهارات خاصة. كـــان خــيــارهــا الــوحــيــد هــو أن تــعــود إلى أبـيـهـا لتحصل عـلـى مـسـاعـدتـه، وهــو ما فعلته. كـــان مــنــزل جـــدي وجـــدتـــي.. حـيـث قضيت طفولتي مليئا بالحيوانات البرية والبشر الغريبني، وكذلك باألشباح الطيبة. كانت جدتي سيدة ساحرة ومن اللواتي لهن اهتمام بسيط بالعالم املــادي. فقد أمضت معظم حياتها بتجربة التخاطر والتحدث إلـى أرواح املوتى من خالل جلسات تحضير األرواح التي كانت تقيمها. هذه هي السيدة املستبصرة التي يمكن لها أن تحرك األشياء دون أن تلمسها، وهي نموذج لـشخصية «كالرا ديل فالي» التي كانت في أولى رواياتي «بيت األرواح». ماتت جدتي منذ وقت طويل وفي سن مبكرة ولكنها مثل ابنتي «بــاوال» وجـودهـا مستمر في حياتي. جـدي كـان باسكيا صلبا وكما كان أيضا عنيدا كالبغل، وكان درسا حقيقيا لي في االنضباط. كان يمكن أن يتذكر املئات من الحكايات الشعبية والقصائد امللحمية الطويلة، وكما كان حكيما أيضا. عاش جدي قرنا من الزمان، وخـالل الجزء األخير من حياته قام بقراءة الكتاب املقدس مـرات عديدة من الغالف إلـى الغالف، كما قـرأ املوسوعة البريطانية «بريتانيكا» كاملة من األلـف إلى الـيـاء، لقد منحني جـدي حـب اللغة والقصص. لـم تكن للسعادة أي عالقة بعائلتي. فقد ذهل جدي كما ذهلت جدتي عندما علما أن الناس ينفقون املال على العالج لكي يتغلبوا على تعاستهم. بالنسبة لهم كان األلم الحياة بشكلها الطبيعي، وكل ما عدا ذلك هراء. إن االرتياح أتى من فعلنا للشيء الصحيح في األسرة، والشرف، والخدمة، والتعلم باستمرار. أمــا عـن الـفـرح فبالطبع كان حاضرا في نواح كثيرة من حياتنا، ولـــم يـكـن الــحــب آخـــر شـــيء فيها، ولكننا لم نكن نتحدث عن الحب ألنــه كــان محرجا للغاية. املشاعر كانت تتدفق بصمت، لم يكن هناك الكثير من اللمس أو التقبيل. كان األطفال بال إشادة أو تدليل، وكان يعتقد في منزلنا أن هذا الفعل غــيــر صـــحـــي، لــقــد تـــم تجاهل الجسد ووظـائـفـه فـي عائلتنا. كانت جريمة ذات طعم سيئ لو اضــطــررنــا للحديث عــن الدين، والسياسة، والصحة، وقبل كل شــيء.. املــال. ورغــم هــذا مارست عائلتي فـعـل الـخـيـر بـكـثـرة مع حــرص شديد على التكتم، كان دافـعـهـا هــو الــكــرم ال الفضيلة، كانت تفعل ذلك من باب الواجب ال التباهي.