تشويه العلمانية
لـيـس هــنــاك مـمـا تنتجه الـبـشـريـة، خـيـر مــحــض، وال شر خالص، وكما يروى عن أم اإلمام مالك (لعل الخير كامن في الشر) والقواعديون يرون أنه ما من مصلحة إال وهي مـشـوبـة بمفسدة بـمـا فــي ذلــك الــعــبــادات، فـالـصـالة مثال تقتضي القيام من النوم وقت البرد الشديد، وترك املرقد الدافئ، والوضوء أو االغتسال، والخروج للصالة وكل هذا مدرج في خانة إفساد متعة النائم. وبما أننا مجتمع سميع، وعاطفي فمن السهل التأثير علينا، بغرس انطباعات سلبية عـن كـل مـا هـو إيجابي، وكم حكمنا على بريء بالذنب، وأصدرنا العقوبة غيابيًا بناء على كذبة محبوكة، أراد بها متملق النيل من خصم لـه، أو منافس، بدافع غيرة أو حسد أو تصفية حسابات خــاصــة، عـلـمـًا بـأنـنـا نـــردد فــي أمـثـالـنـا (بـــني الــحــق وبني الباطل أربعة أصابع) أي املسافة بني األذن وبني العني. منذ مائة عام تقريبًا، تنافس العالم والفيلسوف العربي أحمد لطفي السيد مع مرشح آخر على مقعد تمثيل إحدى دوائــر انتخابات البرملان املصري، فعمد املنافس له إلى إشــاعــة أن أحــمــد لـطـفـي الـسـيـد (ديــمــوقــراطــي)، وبــمــا أن املجتمع بسيط، وال يعرف شيئا عن الديموقراطية، بدأت الناس تتعوذ بالله منه ومن ترشيحه، فانطلت الخدعة في الــدورة األولــى، وبعد خمسة أعــوام اكتسح السيد كل الــدوائــر االنتخابية، وعـلـم الـنـاس أنـهـم أكـلـوا املقلب من منافس غير شــريــف، وحــرمــوا أنفسهم مــن شــرف تمثيل أفالطون األدب العربي لهم. األفـكـار والنظريات مثل البشر عرضة للتشويه، وقراءة تــاريــخ األمـــم والــشــعــوب فــي مـسـار الــتــحــوالت يكشف لنا حجم الـزيـف الــذي تتبناه وتــروج لـه قــوى املمانعة، وكم من أمم هي مضرب املثل في العدالة، والحرية، واملساواة، دفعت ثمن علمانيتها، بدء ا من حروب كالمية بني أطياف املجتمعات، ثم مواجهات دامية، ذهـب ضمن ضحاياها قياصرة وفالسفة وعلماء، وكان لرجال الدين في أوروبا الدور األكبر في تشويه العلمانية التي تحققت بعد 300 عام من التدافع واملعارك. مـــن الــطــبــيــعــي أن يـتـمـسـك رجـــــال الـــديـــن فـــي مـجـتـمـع ما بـــ(الــكــهــنــوت)، ذلـــك أنـــه الـسـبـيـل األوحــــد لــإمــســاك بزمام الــوصــايــة، ال مــن أجــل الــديــن وإنــمــا للتكسب والوجاهة واملشاركة في السلطة.