Okaz

منهجية محمد السبيعي في إدارة األعمال.. قصة لم ترو بعد!

- د. ممدوح بن محمد الحوشان

حــني أراد الــلــه سـبـحـانـه وتــعــالـ­ـى لــهــذه الــبــالد املــبــار­كــة املـمـلـكـ­ة العربية الـسـعـودي­ـة أن تـكـون حاضنة للحرمني الـشـريـفـ­ني، وســاهــرة على رعاية مصالح اإلسالم واملسلمني في العاملني، هيأ لها بحكمته وعلمه مقومات الدولة الحديثة، وأمدها بثروات مادية غزيرة، واختار لها قيادة سياسية متمكنة، ووهـبـهـا رجـــاالت علم ومــال وفـكـر أسـهـمـوا فـي بـنـاء وتأسيس الكيانات التجارية واالقتصادي­ة والتعليمية والصحية واألمنية، فاكتملت بذلك أضـالع املثلث التنموي (حكومة قوية راغبة في التحديث، ثروات وافرة متنوعة، رجال أكفاء مخلصون قـادرون على التنفيذ)، فتعاضدت جهود الجميع حتى وقفت اململكة العربية السعودية اليوم في مصاف الدول العشرين األقوى اقتصاديًا على مستوى العالم. ويدرك الداني قبل القاصي أن الراحل العزيز محمد بن إبراهيم السبيعي رجل األعمال املعروف (رحمه الله) الذي وافته املنية في السادس والعشرين مـن شهر ذي القعدة املـاضـي هـو مـن الجيل العصامي املـؤسـس للحركة االقتصادية في اململكة العربية السعودية، حيث كانت له بعد دخول امللك عبدالعزيز الحجاز عام 1344 هـ اليد الطولى في تأسيس القطاع املصرفي (السعودي) وتنظيم آلية تبادل العمالت، وانطلق في وضع أسس العمل التجاري واملصرفي على مستوى اململكة مع رفاق دربه، ورجاالت عصره من أهـل الحجاز (مثل عبدالعزيز كعكي، وسالم بن محفوظ)، ومـن أهل نجد (مثل صالح الراجحي، وعبدالعزيز املقيرن)، ومن أهل األحساء (مثل محمد وعبدالرحمن املطلق). ولــقــد يـسـر الــلــه لــي (وألســـبــ­ـاب بحثية عـلـمـيـة) االقـــتــ­ـراب واالطـــــ­الع على وثائق محمد إبراهيم السبيعي (رحمه الله) ومراسالته وخطاباته مع رجــال األعــمــا­ل مـن شـركـاء ومنافسني وعــمــالء، وقـمـت بتحليل مضامني عـيـنـات مـنـهـا بــغــرض اســتــخــ­الص منهجية مـحـمـد السبيعي فــي إدارة املشاريع التجارية، وقـد وجـدت فيها من القصص والتجارب واألحداث الـتـي بـرهـنـت بـجـالء عـلـى الشخصية اإلداريـــ­ــة الـقـويـة الـتـي كــان يتمتع بها الفقيد، وعلى ارتفاع معدل الوعي لـدى الراحل بالواقع واملتغيرات االقتصادية واالجتماعي­ة ذات الصلة بأنشطته ومشاريعه، كما تبني لي من خـالل دراســة هـذه الوثائق أن محمد السبيعي كـان مفاوضا تجاريا متميزا ذا قدرة على الوصول لهدفه بتأن وحكمة، وأظهرت لي مخاطباته مع شركائه (ومن أهمها مراسالته مع صديق عمره وشريكه األول الشيخ سليمان بن غنيم - رحمه الله) كم كان السبيعي شريكا وفيا أمينا صادقا مع شريكه مهما كان بينهما من اختالف في تفاصيل إدارة العمل، إال أن التمسك بالوفاء والصدق مع الشركاء ظل مبدأ راسخا لديه، كما أبانت هذه الوثائق الهامة الدور املحوري والجوهري للفقيد الراحل في تعزيز مفاهيم العمل الخيري املؤسسي ذي املـــردود االجتماعي واالقتصادي والــوطــن­ــي، ومــن الـشـواهـد املهمة والـالفـتـ­ة فــي هــذا املــجــال مـراسـالتـ­ه مع سماحة الشيخ عبدالعزيز بن بـاز (رحمه الله) حـول املشاريع الخيرية، حيث كان محمد السبيعي (رحمه الله) حريصا على إقناع سماحة الشيخ بأهمية إدارة األنشطة الخيرية بطريقة استثمارية تضمن توفير العوائد الثابتة لهذه املشاريع بدال من صرف األموال مباشرة، وقد نجح في مسعاه وتمكن من تعزيز قيمة األوقاف في األعمال الخيرية لدى أطياف واسعة ومؤثرة من العلماء ورجال األعمال. كما أبــانــت وثــائــق السبيعي ارتــفــاع مـعـدل الــوعــي لــدى الــراحــل بالواقع واملتغيرات االقتصادية واالجتماعي­ة ذات الصلة بأنشطته ومشاريعه، فعلى سبيل املثال ضم ارشيف الفقيد (رحمه الله) تقارير اقتصادية دورية فصلية ربـع سنوية تـرد من بنك FIVCB األمريكي إلـى محمد السبيعي في عام 1962 م تتضمن توقعات أسعار السلع الغذائية األساسية للعام الحالي وتربطها بمتغيرات املـنـاخ حينها، ويـبـدو أن محمد السبيعي حينها كان يستفيد من هذه التقارير في اتخاذ قرارته التجارية، وهذا مؤشر واضــح على «موضوعية السبيعي» وتلهفه للمعلومات املوثقة واعتماده على املصادر املطلعة املالية في زمن كانت فيها مظاهر األمية متفشية والقرارات العشوائية سائدة ومفاهيم التواكل املغلوطة طاغية في ثقافة املجتمع. وكــــم اســتــوقـ­ـفــنــي كــثــيــرًا أســـلـــو­ب مــحــمــد إبـــراهــ­ـيـــم الــســبــ­يــعــي فـــي إدارة الخصومات والشراكات التجارية املتعثرة، إذ تجده في املراحل األولى من ظهور األزمة أو املشكلة متسما بالحلم واألناة وسعة الصدر، فيمهل املخطئ واملماطل وينذره ويراسله ويمنحه وقتا كافيا لتدارك زالته، ثم إذا ما تيقن السبيعي من إصــرار املخطئ أو تالعب املحتال، أو مماطلة الـغـنـي، انقلب لينه حـزمـًا وتـحـول حلمه غضبا، لينتفض أبــو إبراهيم (رحمه الله) مستخدمًا أدلته وحججه، وقلمه السيال، ولسانه الفصيح، وانطلق متابعًا تحصيل حقه بالطرق النظامية الشرعية وال يهدأ له بال حتى يحق الله الحق له أو عليه. وكــأي رجـل أعمال في هـذه الدنيا مـرت بالفقيد الراحل مواقف ومراحل تعرض فيها لخسائر وانكسارات مالية غير متوقعة، وقد كان يخرج منها بثبات املؤمن وحكمة الخبير ويلتمس فيها جوانب خير مستقبلي له، فقد قال مرة معلقًا على خسارة مالية حصلت له في الثمانينات امليالدية: «ال شك أن هذه خسارة مؤملة ولكنها درس، ألن اإلنسان يجب أن ال يخجل من السؤال والتقصي دون مجاملة عمن يتعامل معه حتى ولو كان من أقرب أقربائه، ولله الحمد فقد عوضني الله بفضله أضعاف ما ضاع مني ولله الحمد». إن الـشـخـصـي­ـة الــتــجــ­اريــة لـلـفـقـيـ­د الــغــالـ­ـي قـــد تـشـكـلـت مــتــأثــ­رة بعوامل اجتماعية واقتصادية وثقافية متعددة «معاناة اليتم – متطلبات الغربة – مرارة الفقر – التمسك بالقيم اإلسالمية – اتقاد الشاعرية – نيل ثقة والة األمر- العالقة اإليجابية مع العلماء- الشراكات املالية في اململكة والخليج والعالم العربي» إلى غير ذلك من العوامل األخرى التي تضافرت جميعا في إكساب الفقيد الغالي شخصية تجارية استثنائية فذة جمعت بني قوة الشخصية والـجـرأة في اتخاذ الـقـرارات الصعبة مع امتالك روح شفافة طاهرة ميالة للتسامح والــود، وأثمرت هـذه العوامل ظهور رجـل أعمال بارع في إدارة الصفقات واألموال واألعمال التجارية بكل اقتدار، وهو في ذات الوقت رجل محب ألعمال الخير عطوف على الفقراء واأليتام، وعززت هـذه العوامل مجتمعة شخصية رجـل األعـمـال الوطني الــذي تسمو في ميزانه وعقله وقراراته واختياراته مصلحة الوطن واقتصاده وازدهاره على مصلحته الشخصية ومكتسباته املادية وثروته الخاصة. إن «حــيــاة وتــجــربـ­ـة وشـخـصـيـة مـحـمـد بــن إبــراهــي­ــم الـسـبـيـع­ـي فــي عالم املال واألعمال واإلدارة والتجارة» تجربة ثرية مليئة بالحكم والتجارب والفوائد، وتشكل بذاتها (حالة نادرة) تستحق إفرادها في كتاب أو بحث علمي يتناولها بشيء من الرصد والتحليل والربط في سياق ظروفها الزمنية واالقتصادي­ة والسياسية، كما أن «النمط القيادي ملحمد إبراهيم السبيعي» فــي اتــخــاذ الـــقـــر­ارات املـصـيـري­ـة يستحق التحليل والدارسة، وإن قصة نجاحه املالي والتجاري ينبغي أن تـروى كاملة مستوفاة من مصادرها املوثوقة، حيث إن ذلك العمل ستكون له نتائج إيجابية كبيرة على مستوى الـوفـاء والـبـر بالفقيد (رحـمـه الـلـه)، وعلى مستوى تعزيز الروح الريادية لدى رجال األعمال وشباب الوطن، كما أن إصدار وتبني مثل هذه البحوث سيكون محفزا لرجال األعمال املؤسسني (وأبنائهم) في تبني وتوثيق نشأة الحركة التجارية في اململكة، وتحديد سمات روادها، ودراسة العوامل املؤثرة فيها، خاصة أن هؤالء الرواد شغلوا طوال حياتهم بالعمل الجاد املضني ولم يكونوا طالب شهرة، ويغلب عليهم االحتفاظ بـالـوثـائ­ـق واملــراسـ­ـالت واملـخـاطـ­بـات دون إخضاعها ألرشــفــة منظمة أو تحليل عميق، وقد كانوا يتجنبون الحديث عن تجاربهم بشكل موسع ألسباب دينية أو اقتصادية أو اجتماعية، وقد جاء اليوم واجب أبنائهم ومحبيهم- بعد زوال املـوانـع- في أن يظهروا جوانب التأسي ومجاالت النبوغ لدى هذا الجيل العصامي للرأي العام نشرًا للفائدة وتحفيزًا للهمم وتوثيقا للتاريخ واستجالبا للدعوات لهم بالرحمة واملغفرة بإذن الله. وإني حني أتبنى هذا املقترح فإني على علم واطالع ومشاركة في الجهود الجبارة ألبناء الفقيد – مشكورين مأجورين- في حفظ وتوثيق سيرة والـدهـم (رحـمـه الـلـه) التي بــدأوا بها منذ أكثر مـن عشر سـنـوات ونفذوا مبادرات متعددة في هذا السياق، حيث أصدروا ديوانا مطبوعا ألشعاره (ديـــوان تاجر وشــاعــر)، وكتابا توثيقيا لتاريخه وكفاحه (رحـلـة الفقر والــغــنـ­ـى)، كـمـا أنـتـجـوا مـــواد مـرئـيـة تــوضــح وتــوثــق جـانـبـا مــن حياته، واهتموا بنشر لقاء ات صحفية متعددة مع الراحل في الصحف واملجالت والقنوات الوطنية واالقتصادي­ة، وقـد كـان لهذه املــبــاد­رات أثـر كبير في تقريب شــيء مـن سيرته العطرة للمتلقني، ويعكف أبـنـاء الفقيد حاليا على تنفيذ مــبــادرا­ت أخــرى متوائمة مـع تـاريـخ ومكانة الــراحــل (رحمه الـلـه)، وبـــأدوات ووسـائـل علمية وتقنية حديثة ومعاصرة ونتطلع إلى اسـتـمـرار­هـا وتـوسـعـهـ­ا مستقبال بـمـا يضمن رفــع ذكــر اســم هــذا العلم

الشامخ، وبث سيرته العطرة وتجربته املميزة في أصقاع العالم.

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia