Okaz

نيويورك«4»

- منيرة الغدير*

الــعــنــ­ان إللقاء الضوء عـلـى موسيقى الــجــاز ونـقـدهـا لطال الــــحـــ­ـديــــث ولــــكـــ­ـن ســـأكـــت­ـــفـــي ببعض التقاطعات املهمة والتي قدمتها قراء ة نــظــريــ­ة مــتــمــي­ــزة تــنــاولـ­ـت شخصية حـظـيـت بــاالهــت­ــمــام والــامــب­ــاالة معًا مــع مــا صاحبها مــن األطـــر النمطية وتاريخ التشئ الجلي: جوزفني بيكر التي اعتبرت رمزًا لعصر الجاز، ولم تمكث طويا في نيويورك على الرغم أنــهــا حــقــقــت نــجــاحــًا فـــي بداياتها؛ وغـادرت إلى باريس لتصبح أيقونة الـعـشـريـ­نـات الـصـاخـبـ­ة عـلـى مسارح باريس الشهيرة. ليست وحدها التي غادرت بل فوج من الكتاب والفنانني هربًا من العنصرية والعنف املتأجج في املدن األمريكية وقد قمت بتدريس مادة «الرواية األفريقية األمريكية في باريس،» وسأتحدث عن هذا املوضوع الحـقـًا. كتاب آن شانج أسـتـاذة األدب املقارن واألدب اإلنجليزي في جامعة برينستون يقدم طرحا نظريا فريدًا مـــن خــــال تــحــلــي­ــل ظـــاهـــر­ة جوزفني بيكر وقد درسته في جامعة كوملبيا؛ احـــتـــر­ت فـــي نــقــل الــعــنــ­وان Second( ‪Skin: Josephine Baker & the Modern‬ )Surface إلى العربية ما بني ترجمة حرفية: (الجلد الثاني: جوزفني بيكر والـــســـ­طـــح الــــخـــ­ـارجــــي)، أو (البشرة األخــــــ­ــــرى: جــــوزفــ­ــني بـــيـــكـ­ــر واملظهر الــخــارج­ــي) لــكــن الــخــيــ­ار األول ربما أقــرب لطرح شانج التحليلي ملفهوم السطح، الجلد، املرئي، والظاهر وما يـعـنـيـه كـبـنـيـة خـطـابـيـة فــي مشروع الحداثة؛ أما الثاني فيطرح إيحاءات عــن الــجــســ­د وتــطــويـ­ـعــه الــــذي شكلته سياسة التمثيات منذ بدايات القرن الـــعـــش­ـــريـــن بــــاإلضـ­ـــافــــة إلـــــى الهوس بالبشرة النقية في محاولة للتنكر ملا تكشفه مـن أثـر عرقي واالبـتـعـ­اد عما يــرى فـوقـهـا، ولذلك يأتي التشبه باللون األبــــــ­ــــــــــ­ـيــــــــ­ـــــــــض وســــمـــ­ـاتــــه من خــال التورط فـــي «رواســـــب الــــــــ­ــداللــــ­ــــــة» كـــــــــ­ــــــمـــ­ــــــــــ­ــا وصـفـتـهـا الــنــاقـ­ـدة. مــن األسئلة الــجــديـ­ـدة الــتــي تـطـرحـهـا في بــدايــة كــتــابــ­هــا: «ملــــاذا يجب على املهندسني املعماريني الحداثيني الذين يمقتون الـــــزخـ­ــــرفــــ­ـة، والـــــوش­ـــــم، والـــعـــ­امـــات املثيرة األخــرى أن يختاروا الـــتـــف­ـــكـــيــ­ـر بأسطح مـبـانـيـه­ـم وكأنها «جـــــــــ­لـــــــــ­د»؟ ملــــــــ­اذا تحمل أول بدالت الــســبــ­احــة الــحــديـ­ـثــة تــشــابــ­هــًا مرئيًا مــع زي الـسـجـن فــي الــقــرن الـــــ91؟ هل افــتــتــ­ان الــقــرن الــعــشــ­ريــن بالشفافية هو من أجل متعة الرؤية في داخل أو مـن خــال األشــيــا­ء؟» وتلفت االنتباه إلــى أن كـتـابـهـا يـقـودنـا للتفكير في «أســـرار املـرئـي الغامضة وكيف أنها تــتــواجـ­ـد عــلــى األســطــح الــتــي نعتقد أنــنــا نـعـرفـهـا جـــيـــدًا.» بــل تـضـيـف أن أسئلتها هــذه هــي جــزء مـمـا تسميه «حلم الحداثة بالجلد الثاني،» وذلك من خال تحليلها للمرأة التي أثارت الـدهـشـة والــجــدل، جــوزفــني بيكر في أوائل القرن العشرين. تذكرنا الكاتبة بعودة االهتمام النقدي والثقافي بجوزفني بيكر مع الذكرى املـــئـــ­ويـــة لوالدتها فــي200٦ حـــــيـــ­ــث عـــــــقـ­ــــــد في جامعة كولومبيا وكـــلـــي­ـــة بــــرنـــ­ـارد مـــــــــ­ـؤتـــــــ­ـــمــــــ­ــــرًا أكــــاديـ­ـــمــــيـ­ـــًا فـــــــــ­ـي نفس الــــــــ­ـــــســــ­ـــــــــن­ــــــــــ­ـــة، ومــعــرضـ­ـًا مــتــنــق­ــا. كــمــا صدر طـــــابــ­ـــع بــــــريـ­ـــــدي فــــــي 200٨ يـحـمـل صــورتــهـ­ـا كاعتراف بــأهــمــ­يــتــهــا وإن جــــاء ذلك متأخرًا؛ وحتى اآلن لبيكر ثـــاث مـــذكـــر­ات وحظيت بـــــأكــ­ـــثـــــر مـــــــن عشرين ســيــرة باإلنجليزي­ة والـــــــ­ــفـــــــ­ــرنــــــ­ـــســــــ­ـــيــــــ­ـــة، بــاإلضــا­فــة إلـــى كم هائل من الصور كــــــمــ­ــــا تــــخــــ­بــــرنـــ­ـا شـانـج، مـؤكـدة على أنــه «يمكن القول إن بيكر كانت واحدة من أكثر الفنانني ذكرًا في القرن العشرين.» كتاب شانج يسعى لفهم سياقات النقاش املتداول حــول بيكر، األيقونة كظاهرة تكشف الحداثة واألزمات املتشابكة مع العرق والـــــذا­ت. والــنــاق­ــدة تـنـفـي أنــهــا تطرح فـــقـــط حـــجـــة مـــفـــاد­هـــا نـــقـــاش حداثة الفنانة األفريقية األمريكية كوسيلة لدحض التهم التي طاملا استقرت على صــــورة الــجــســ­د املــخــتـ­ـلــف، وإنــمــا هي تتبع التشابك املثير مـا بـني الحداثة والبدائية بل التماهي بينهما وخاصة أن النقاد كانوا ينظرون لبيكر كصورة تـعـيـد الـــرائــ­ـي إلـــى بــدائــيـ­ـة ممسرحة، وتـكـشـف لـنـا أن «الــحــداث­ــة والبدائية مـتـشـابـك­ـتـان، بــل فــي بــعــض األحيان مـتـطـابـق­ـتـان.» فـهـل رأى الجمهور املــكــتـ­ـظ أمــــام عــــروض بـيـكـر على مسارح باريس «شيئًا مختلفا أم كانوا يـــرون بشكل مـخـتـلـف؟» وهـــذا الطرح يشير إلـى أن االخـتـاف يجعلنا نرى مهما تسربلنا في مقاومته وذلك ألن املختلف ال يشبهنا وال يمنحنا لحظة الـتـمـاهـ­ي مـعـه. وبـالـفـعـ­ل هــذا مــا وقع فيه بعض نـقـاد جــوزفــني بيكر، فهي تكشف هذا السر وأسطورة الغموض املتجسد على السطح، البشرة، الجلد وكــل مـا هـو ظـاهـر للعيان. وتتساءل الــكــاتـ­ـبــة: «كــيــف يـمـكـن تـغـيـيـر فهمنا للتوقعات السياسية املحيطة بالجسد األنـثـوي عندما نعتبر أن بيكر نقطة ارتــــكــ­ــاز ديــنــامـ­ـيــكــيــ­ة تـــم مـــن خالها تشكل فكرة» األسلوب الحداثي؟ أيضًا طـــرح آن شــانــج املــبــدع يــضــيء مــا مر بــه الــجــســ­د الــبــشــ­ري مــن تــحــوالت في مختلف املــجــاا­لت الــتــي «عـجـلـت بها الـثـورة الصناعية وتكثفت في عصر التكاثر امليكانيكي. إن التقدم الطبي واالبــتــ­كــارات التكنولوجي­ة البصرية مثل األفام والتصوير الفوتوغراف­ي، والــخــطـ­ـابــات الـفـلـسـف­ـيـة الصناعية» كلها «تتاقى لتشكيل تخيل هيئة حـديـثـة ومــتــجــ­ددة ومنضبطة.» أيضًا توظف الكاتبة التحليل النفسي في نقاشها وخاصة مــــا أحــــدثــ­ــه اكـــتـــش­ـــاف فرويد «لـــــــــ­ــلـــــــ­ــــواقـــ­ــــــــع

الـــــنــ­ـــفـــــس­ـــــي» ودور الحياة الخيالية التي ضاعفت تخوم الجسد وكثفت تقييده في ذات الـــوقـــ­ت. نــشــوء هــــذه الـــحـــد­ود املادية واملـيـتـا­فـيـزيـقـي­ـة لـجـسـد اإلنــســا­ن وما يــشــكــل­ــهــا هــــو أحــــــد مــــا تـــــــدو­ر حوله أهــــم الــنــقــ­اشــات الـفـلـسـف­ـيـة فـــي القرن العشرين. هنا يتمركز هوس الحداثة الـــذي تفككه الـنـاقـدة بتسميته «حلم الـجـلـد الـثـانـي بــإعــادة صـيـاغـة الذات فـي جلد اآلخــر - هـو الخيال املتبادل واملشترك بني كل من الحداثيني الذين يسعون إلى أن يكونوا خارج جلدهم واآلخر العرقي الذي يتطلع للهرب من أعباء ما تحمله البشرة.» إذًا آن شانج تقدم نقدًا مزدوجًا للخطاب الحداثي، وتمثيات من وشم بالبدائية ملواجهة مــا يـــرى فـــوق الـسـطـح الــظــاهـ­ـر. ومثل الـنـاقـدة استحضر وصــف فيرجينيا وولـــف للحياة بـأنـهـا «مــظــروف شبه شـــفـــاف.» أمــشــي بـــجـــوا­ر املــبــنـ­ـى على شــــارع الــــبـــ­ـرودواي وأتــخــيـ­ـل تلك الحقبة التاريخية وتحوالتها املـــــده­ـــــشــــ­ـة؛ يـــعـــبـ­ــر اآلخـــــر بينما األنــا بــجــواره أو هـــــي خــــلــــ­فــــه، وهكذا سيرة املبنى تكاد ال تنتهي ملا يحيط بها من أطياف.

* أكاديمية سعودية درست في جامعتي كولومبيا وهارفارد

 ??  ??
 ??  ?? منيرة الغدير
منيرة الغدير
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia