الشيوعيون في السعودية..
النشأة.. الصعود.. النهاية
ليس واضحًا تمامًا كيف وجدت األفكار اليسارية طريقها إلى اململكة العربية السعودية! إذ لم يـقـدم لنا اليساريون األوائل الــذيــن لــعــبــوا أدورًا نـشـطـة فــي الــحــركــة الـعـمـالـيـة فــي سنوات النشوء والتأسيس خالل عقدي األربعينات والخمسينات من القرن العشرين، معلومات واضحة حول كيفية وصول وانتشار األفكار اليسارية والوعي الحقوقي العمالي املصاحب لها، في أوساط عمال النفط شرق اململكة. كما أن الباحثني الذين أسهموا بــدراســات وأوراق بـحـث حــول الـيـسـار فــي الــســعــوديــة، عجزوا جميعهم مـن دون استثناء، عـن تقديم سـرديـة متماسكة حول هوية العنصر الناقل لتلك األفكار إلى الوسط العمالي النفطي، رغم وجود رأي غير مدعوم بأي دليل يقول بأن هناك شيوعيني سعوديني شاركوا في مؤتمر للشيوعيني الشرق أوسطيني انعقد في باطوم بجمهورية جورجيا السوفييتية عام ٠٥٩١، كما أن هناك رأيا آخر يعوزه الدليل، يقول بأن شيوعيني من البحرين والـــعـــراق قــد أســهــمــوا فــي تــأســيــس تــيــار شــيــوعــي فــي اململكة العربية السعودية. لكن التدقيق في أسماء غير السعوديني الذين أوقفوا نتيجة الحملة األمنية عـــام ٤٦٩١، ال يــوصــل الــبــاحــث إال لشخصية بـحـريـنـيـة وحــيــدة وهـــي خليفة خـلـفـان الذي جاء إلى السعودية بني عامي ٨٥٩١ و ٩٥٩١، ومـــن الــثــابــت أن وصــولــه إلـــى الــســعــوديــة كان بعيد تأسيس جبهة التحرر الوطني، لذلك لم تستقر لدي قناعة حول إسهام عناصر عربية في تأسيس أي هيكل حزبي شيوعي في الداخل الـــســـعـــودي، واألرجــــــح أن كـــل تــلــك اآلراء القائلة بالتأثير الكبير الذي أحدثته عناصر عربية وغير عربية في مرحلة التأسيس، هي آراء واقعة تحت تأثير النظرة االسـتـعـالئـيـة التقليدية الــتــي يحملها الــعــرب مــن خـــارج شبه الجزيرة العربية تجاه عـرب شبه الجزيرة العربية. إال أن من املؤكد أن هذه األفكار قد أحدثت صدى عقب قـرار حل األممية الثالثة بسنتني تقريبًا، حيث لم أجد أثرًا لتلك األفكار قبل عام ٥٤٩١. ومــن هنا يمكن الـقـول أن األفــكــار اليسارية قـد اتخذت مسارها نحو السعودية بشكل مغاير عن املسار الـذي اتخذته األفكار املاركسية-اللينينية في دول ومناطق عربية أخرى مثل فلسطني، ومصر، وسورية ولبنان، والعراق، والسودان، وتونس، والجزائر، واملغرب؛ ففي فلسطني، وبالد الشام، ومصر، والعراق، تكشف الـدراسـات، واألبحاث، واملذكرات عن الـدور الكبير الذي لعبته األممية الثالثة في تأسيس األحزاب الشيوعية، وبالذات دور املـهـاجـريـن الـيـهـود الــذيــن حـمـلـوا األفــكــار الشيوعية قبل هجرتهم إلـى فلسطني بعد انتهاء الحرب العاملية األولــى. أما األحزاب الشيوعية في تونس والجزائر واملغرب، فقد كانت عبارة عن فــروع محلية للحزب الشيوعي الفرنسي الــذي كـان عضوًا في األممية الثالثة. من املفارقات، أن التيار اليساري في اململكة العربية السعودية بكل مكوناته قد صعد إلى مستوى الفعالية الحركية خالل فترة وجيزة لم تتجاوز عقدا من الزمن منذ أول رصد لوصول األفكار اليسارية للوسط العمالي الوطني، على عكس ما حدث لغالبية الحركات اليسارية في مختلف البلدان العربية التي شهدت ظهور مثل هذه التيارات منذ بواكير القرن العشرين، ولـكـن تلك الـحـركـات والــتــيــارات كـانـت قـد استغرقت عقودا من الزمن قبل أن تتمتع بالفاعلية الحركية. هـــذه الــبــدايــات لـلـحـركـة الـشـيـوعـيـة فــي الــعــالــم الــعــربــي، أثرت سلبًا على الـقـدرات التنظيمية لألحزاب الشيوعية الـدائـرة في الفلك السوفييتي، ومنعتها - في حـاالت محددة - من تحقيق مبدأ النواة الصلبة التي تتولى قيادة نضال الطبقة العاملة، ووضــعــتــهــا فــي مــــآزق وجـــوديـــة عــنــد مــواجــهــة االستحقاقات القومية والوطنية الكبرى. مـن أبــرز تلك املـــآزق، نــأي األحزاب الشيوعية عن البورجوازيات الوطنية التي قادت مرحلة التحرر الوطني من االستعمار، حيث فرض مفهوم «صـراع طبقة ضد طــبــقــة» عــلــى األحــــــزاب الــشــيــوعــيــة، أن تـعـتـبـر البورجوازيات الوطنية ضمن معسكر األعــداء دون أخـذ الظروف املوضوعية للعالم العربي بعني االعتبار، وقد لعبت القيادات غير العربية الــتــي تــولــت تـوجـيـه األحـــــزاب الـشـيـوعـيـة الـعـربـيـة فــي املراحل املبكرة، دورًا كبيرًا في تكريس «البلشفة»، وفي مقاومة ما عرف حينها بـ«النزعات الشوفينية القومية» في أوساط الشيوعيني العرب. واملأزق األكبر الذي مرت به األحزاب الشيوعية العربية، كان القبول السوفييتي بقرار الجمعية العامة لألمم املتحدة رقم ١٨١ لعام ٧٤٩١ القاضي بتقسيم فلسطني، والذي قبلته األحزاب الشيوعية العربية تبعًا للموقف السوفييتي. واملـــأزق اآلخر كان التعريف الستاليني لألمة الذي وضع األحـزاب الشيوعية العربية فـي مواجهة الـقـوى القومية العربية التي تؤمن بأن للعرب خصائص األمــة الــواحــدة، وإن هـذه الخصائص تشكل قوة دفع كافية باتجاه تحقيق الوحدة العربية. لـم يكن األمــر على هــذا النحو فـي السعودية؛ إذ إن السعودية لـــم تــحــظ قــبــل تــدفــق الــنــفــط، بــنــفــس األهمية الــتــي حـظـيـت بــهــا بــعــد تــدفــق الــنــفــط، كــمــا أن اإلمبراطورية العثمانية كانت قد خسرت مناطق نفوذها وسلطانها في شبه الجزيرة العربية، ولم يتبق ضمن سلطانها عند انــدالع الحرب العاملية األولـــى، غير منطقة الـحـجـاز، وشــرق األردن، وهي مناطق كان الشريف حسني يتحني فرصة انتزاعها من يد العثمانيني، وقد واتته الفرصة مع الحرب، حــيــث أعــلــن انــطــالق الـــثـــورة الــعــربــيــة الكبرى مدفوعًا بالوعد البريطاني بتنصيبه خليفة عــلــى املــســلــمــني ومــلــكــًا عــلــى الـــعـــرب بـــديـــال آلل عثمان. في أوراق غيرترود بل املعنونة «أوراق من تاريخ العراق القريب»، تشرح اآلنسة بل الدور اإليجابي الذي لعبه سلطان نجد ابن سعود، وشيخ الكويت بن الصباح، وشيخ املحمرة خزعل الـكـعـبـي، وسـلـطـان مـسـقـط، وشــيــوخ الـسـاحـل املــهــادن، وشيوخ الـبـحـريـن فــي الـسـيـطـرة عـلـى مـواطـنـيـهـم، ومـنـعـهـم مــن تهديد املصالح البريطانية أثناء انشغال بريطانيا بحرب العثمانيني. وبما أن الجزيرة العربية لم تعرف امللكيات الزراعية الكبرى، ولم تعرف الصيغة اإلقطاعية في عالقات اإلنتاج الزراعي، فقد خلت من البيئة الصالحة التي قد تنمو وتزدهر فيها األفكار االشتراكية أو الوعي الحقوقي الحديث، ولهذا، فقد وفرت البنى الـعـشـائـريـة حــالــة مــن االســتــقــرار الـنـسـبـي خـــالل وبــعــد الحرب العاملية األولى، وتأخر وصول األفكار التقدمية إلى املنطقة إلى حني نشوء الصناعات النفطية. الشيوعيان: األردني نور الله واملصري األهواني في الوسط العمالي السعودي بعد هــذه املـقـدمـة، يمكن الــقــول إن الطبقة العاملة الوطنية في مجال النفط أصبحت عرضة الختبار الوعي الحقوقي الحديث، بـعـد تكونها الجنيني وخـضـوعـهـا لسياسة تمييزية واضحة طبقتها شركة أرامكو؛ وضعت سياسة أرامكو التمييزية، الرجل األبيض في موضع السيد الذي يمتلك كل أسباب القوة، ويحظى بكافة االمــتــيــازات، ويتمتع بحقوقه فـي تحديد سـاعـات العمل، وفي السكن الصحي، وفي الرعاية الطبية املتقدمة، وفي وسائل الترفيه مـن مالعب رياضية وصــاالت السينما وقـاعـات الطعام الفاخرة، وكذلك في األجور الشهرية املرتفعة إلى درجة املبالغة. في مقابل العمالة الوطنية واألجنبية غير األمريكية والكندية والبريطانية، التي وضعتها سياسة أرامكو التمييزية في موضع أدنى حيث السكن الذي ال يرتقي بشروطه إلى املستوى اإلنساني األدنـــى، واألجـــور املنخفضة، وانــعــدام وسـائـل الترفيه، والرعاية الطبية، وعــدم تحديد يـوم العمل بثماني سـاعـات. إلـى آخــره من مظاهر التمييز. حسب تكهنات الباحثني، ومذكرات بعض املشاركني، فإن أرامكو قــد اسـتـقـدمـت آالفـــا مــن املــواطــنــني الــعــرب الــذيــن يــجــيــدون اللغة اإلنجليزية مـن الــســودان، ومـصـر، وفلسطني، ولـبـنـان، والعراق، والبحرين، واألردن، وأسندت إليهم مهام الترجمة وتدريب وتعليم العمالة الوطنية الـتـي كـانـت تتفشى األمــيــة فــي أوســاطــهــا؛ كما استقدمت أرامكو مواطنني إيطاليني يرجح أن بعضهم كان ضمن أسرى الحرب العاملية الثانية. هذه األعداد التي استقدمتها أرامكو، حمل بعضها درجـة من الوعي الحقوقي إمـا عن طريق معايشة تجارب نقابية وحركات احتجاج حقوقية، أو حتى أن بعضها قد خاض تجربة االنخراط في التنظيمات اليسارية في بلده األم. فقد عرفت شخصيًا من أحد رواد الحراك العمالي أن محمود األهواني وهو شيوعي مصري، وعبدالله نور الله وهو شيوعي أردني، قد عمال في شركة أرامكو خالل عقدي األربعينات والخمسينات من القرن العشرين، وأن كل واحد منهما قد نقل، بشكل من األشكال، األفكار التي حملها من تجربته السابقة، إلى زمالء سعوديني عمل معهم في شركة أرامـكـو، وأثـر في بعضهم. وقـد تكون هـذه حالة متكررة في حينها. إذ نلحظ أن الوعي بأهمية التنظيم النقابي، ووعــي معنى اإلضــراب عن العمل كقوة ضاغطة على رب العمل من أجل استخالص الحقوق، قد نما باضطراد خالل فترة قصيرة منذ أول إضراب عن العمل في منتصف األربعينات، حتى حركة اإلضرابات الكبرى عام ٣٥٩١. فحركة إضرابات عام ٣٥٩١ تمكنت من التسبب بشلل تام في صناعة النفط، وأدى الوعي التضامني لـــدى الــقــوى الــعــامــلــة، إلـــى إجــبــار الــســلــطــات على إطالق سراح العناصر القيادية التي اعتقلت نــتــيــجــة حـــركـــة اإلضـــــرابـــــات الكبرى، وأودعـــت سجن العبيد فـي منطقة األحــســاء. أدى هــذا املـخـاض إلى والدة لجنة العمال، وبعد وفاة امللك عبدالعزيز، أصــدر امللك سعود عفوًا عـامـًا، عــاد على إثـــــــره، الــنــشــطــاء املبعدون أمــثــال عـبـدالـعـزيـز السنيد، إلـــى الــســعــوديــة، كــمــا أمر املـلـك سـعـود بتأسيس مــــصــــلــــحــــة دائـــــمـــــة للعمل والعمال وربــــــــــطــــــــــهــــــــــا مـــــــبـــــــاشـــــــرة بمجلس الوزراء، عــــــــــــــــــــني عــــــــلــــــــى رأســــهــــا عـبـدالـعـزيـز بــن معمر وهــو «شـيـوعـي مـخـتـبـئ» حـسـب التقارير الـدبـلـومـاسـيـة الـغـربـيـة، ومــن املــرجــح أن يـكـون قــد تبنى األفكار الشيوعية خالل سنوات دراسته في الجامعة األمريكية في بيروت (اعــتــقــل ابـــن مـعـمـر يـــوم ٢ مــايــو ٥٥٩١ وسـلـمـت إدارة املصلحة إلـى تركي العطيشان الــذي كـان أحـد كبار موظفي إمــارة املنطقة الـشـرقـيـة). ضمت اللجنة إلــى عضويتها، مـسـؤولـني حكوميني، ونشطاء حقوقيني، وممثلني للعمال تبني أن أكثر من واحد منهم، متأثر باألفكار اليسارية، أو متبنيًا لها، مثل عبدالعزيز السنيد الذي جاء من العراق حامال تجربة عضويته في الحزب الشيوعي العراقي، وعبدالرحمن البهيجان الذي يبدو أنه تعرف على هذه األفـكـار وتبناها خـالل فـتـرات وجــوده فـي بريطانيا بــغــرض الــتــدريــب املــهــنــي، ومـحـمـد الهوشان الـذي حـاز شهادته الجامعية من جامعة بــغــداد، وعــبــدالــلــه الـجـشـي الـــذي تلقى تعليمه في العراق.