عبدالله نصيف.. ابتسامة احملاور ووسطية املؤمن
حديثي عـن الـدكـتـور عبدالله عمر نصيف، شفاه الـــلـــه وعــــافــــاه، لــيــس حــديــثــا ألحــــد املــــاريــــن مرور الـــكـــرام عـلـيـه؛ نـعـم لــم أحــــظ بــشــرف جـلـوسـي على مقاعد درسـه الجامعي حينما كـان محاضرا أو مديرا للجامعة، أو طـالـبـا للعلم بــني يــديــه، وال أزعـــم أنــنــي كـنـت فــتــرة مــن فترات تكويني األولــي، من الـدائـرة املحيطة به والقريبة من شخصيته املتعددة املواهب؛ إذ سمعت عنه، شأني شأن الكثيرين، من أصالته ووجـاهـتـه وعلمه وتعليمه وعـلـو همته املـانـحـة وريــادتــه عطاء إنسانيا وعلميا وكشفيا في املجاالت التي تشرف فيها بتكليفات والة األمـــر، وغـيـرهـا مــن املــجــاالت الخيرية والتطوعية األخرى، التي ال تصدر إال عن نفس كريمة، ووجــه سموح ومحيا طموح تملؤه عالمات الـوقـار، التي أضفت عليه مهابة وطيبة وسكينة صافية، وطلة بيضاء أنيقة، تعكس بياض قلبه ونقاء سريرته، وصوت حميمي بنبرة أبوية حانية، متفردة تنسدل منها لهجته (الجداوية)، صاحب لغة فصيحة حني يخطب أو يتكلم؛ ومفردات علمية، إذا اعتلى منصة وحاضر.. ولكني سمعت عن معالي الوالد الدكتور عبدالله بن عمر نصيف، منذ املراحل األولـى من تعليمنا، قامة وطنية نفخر بها جميعا؛ يحمل رســالــة صــادقــة ومـخـلـصـة، تـخـدم الــديــن والــوطــن والعلم: سيرة ومسيرة ومعرفة ؛ ولن نجد شخصني يختلفان عليه كونه من أفضل وأيسر وأمتع من يحظى بالعمل معه فهو قريب من كل خير وسريع في تبني أي مبادرة أو عمل فيه نفع وفائدة. وقد ملس جيلي واألجيال السابقة والالحقة أيضا ولعه بالحركة الكشفية، إذ نـشـأ فيها ومــا زال يتابعها، حـيـث انـضـم للكشافة وحـصـل على شارتها الخشبية ومـنـح ميدالية الـكـشـاف العربي تـقـديـرا لـجـهـوده املـبـذولـة منذ أن كــان طالبا بالحركة الكشفية، وحرصه على أن يكون له دور كبير في تنميتها. وكــان لنشاطه الحيوي داخليا وخارجيا في هذا الخصوص، أثره امللموس في عضوية لجنة البرنامج العاملي في مكتب الكشافة الدولي جنبا إلــى جـنـب مــع رئــاســة عــدد مــن الـلـجـان والـجـمـعـيـات واالتحادات الكشفية الوطنية واإلقليمية والعاملية مثل اللجنة العليا لرواد الـحـركـة الكشفية باململكة، والـلـجـنـة الكشفية الـعـربـيـة، ورئاسة االتحاد األعلى للكشافة املسلم.. كـمـا تـعـرفـت عـلـى جــوانــب شخصيته الـكـريـمـة أكــثــر وأكــثــر؛ بعد التطورات املتسارعة، في مختلف مجاالت الحياة في اململكة، وما صاحبها من تغيرات مفاجئة وسريعة في املجتمع ومؤسساته، وتماشيا مع نهج الدولة في التحديث والتطوير، خالل العقدين األخيرين بتوجيهات والة األمـر، حفظهم الله، واستجابة لدعوة الـكـثـيـر مــن املــفــكــريــن وقـــــادة الـــــرأي إلـــى إنــشــاء الـــحـــوار الوطني كمساهمة وطنية لترسيخ األمــن واالسـتـقـرار بجميع أبـعـاده في املجتمع، وحينما كلفني امللك عبدالله بن عبدالعزيز، طيب الله ثراه، عندما كان وليا للعهد بأمانة اللقاء الوطني للحوار الفكري األول، بعد اختيار العديد من أصحاب الفضيلة املشايخ ملناقشة موضوع: الوحدة الوطنية والعالقات واملواثيق الدولية، برئاسة مـعـالـي الـشـيـخ صـالـح الـحـصـني، الـرئـيـس الــعــام الـسـابـق لشؤون املـسـجـد الــحــرام واملــســجــد الــنــبــوي، رحــمــه الــلــه، ونـائـبـيـه معالي الــدكــتــور عـبـدالـلـه عـمـر نـصـيـف، ومـعـالـي الــدكــتــور راشـــد الراجح الشريف، ومعالي الدكتور عبدالله بن صالح العبيد، عضو اللجنة الرئاسية، حيث انطلقت أعمال هذه اللجنة بتأسيس دائم للحوار بمسمى مـركـز املـلـك عبدالعزيز لـلـحـوار الـوطـنـي. هــؤالء العلماء األفاضل واألعالم، من خيرة أبناء الوطن، ساهموا بكل ما يملكونه من إخـالص وخبرة ومعرفة وعلم في سبيل بناء مؤسسة فكرية تحمل مسؤولية إدارة االختالفات الفكرية ونبض املجتمع بمختلف توجهاته الفكرية واملذهبية واملناطقية والقبلية، وإتاحة الفرصة لكل فرد من أفراد املجتمع للمساهمة برأيه ومعرفته انطالقا من ثوابتنا الشرعية والوطنية وقام أعضاء اللجنة الرئاسية بشرف إدارة هذه الحوارات خالل السنوات العشر األولى من عمر املركز، حيث تولوا مسؤولية اإلشــراف على كل صغيرة وكبيرة بحياد وأمانة ساهمت في نجاح اللقاء ات والنشاطات التي أقيمت. ومـنـذ الـلـقـاء األول وعـلـى مــدار أكـثـر مــن عشر سـنــوات حتى هذه الــســاعــة تـــوطـــدت عــالقــتــنــا وتــنــامــت، واقــتــربــت أكــثــر وأكـــثـــر من شخصية معاليه، كما تعرفت على املزيد من الخصال واملزايا التي يتحلى بها، شفاه الله، وحفظه ورعـاه، كعالم دين، عرف بنزوعه نحو الوسطية واالعــتــدال والـتـسـامـح مـن خــالل الــحــوار الكاشف والـبـنـاء ومـشـاركـاتـه وتوجيهاته الـسـديـدة فـي اللجنة الرئاسية ملــركــز املــلــك عـبـدالـعـزيـز لــلــحــوار الــوطــنــي؛ فـضـال عــن كــونــه رجال متوازنا في عالقاته، وتعامالته مع اآلخرين بشخصيته اإلنسانية املتسامحة، املغرقة في التواضع والبساطة والسخاء والكرم وبذل الخير واملعروف، وتقدير اآلخرين حتى وإن اختلف معهم فكريا.. وتكونت لدي قناعة راسخة، أن هذه الخصال اإلنسانية حقيقة، ال تصدر إال عن رجل مثله، نشأ وترعرع في بيت علم وأدب وريادة هو قصر جده الشيخ محمد نصيف، الذي كان والده كبير أعيان جدة، ومقصد زائري جدة ومكة املكرمة؛ ففيه حل امللك عبدالعزيز آل سعود، طيب الله ثـراه، ألخذ البيعة على العلماء واألعيان من أهل الحجاز. وتجاوزت شخصية معالي الوالد الدكتور عبدالله عمر نصيف، وإضافاتها العلمية املجال املحلي، إلى مجال أكثر شموال ورحابة واتساعا.. وترك بصمات متعددة في األماكن التي تشرف بالعمل بـهـا بــدايــة مــن جـامـعـة املـلـك عـبـدالـعـزيـز، ومــــرورا بـرابـطـة العالم اإلسـالمـي؛ ومجلس الـشـورى، الــذي كـان مرحلة مهمة من مراحل مسيرته حيث عرف عنه النقاش والحوار بالكلمة البناءة وحسن اإلصــغــاء إلــى اآلخـــر وتـقـديـر رأيـــه أيـــا كــان اخـتـالفـه ومعارضتة ملعاليه. ولعلي أتـوقـف عند مرحلة مهمة أخــرى مـن مـراحـل مسيرته في مشروع الحوار الوطني التي شرفت بالعمل معه فيها، حفظه الله، حينما كان نائبا لرئيس اللجنة الرئاسية ملركز امللك عبدالعزيز لــلــحــوار الـــوطـــنـــي؛ حــيــث تــواصــلــت هــــذه املــــكــــارم فـــي اإلنصات واإلصـغـاء، اللذين يعكسان احتراما لآلخر، املختلف معه فكريا وثقافيا ومذهبيا ودينيا، كما ملست حرصه الكبير على ترسيخ هــذه القيم خــالل املــواقــف فــي الــلــقــاءات الفكرية لـلـحـوار الوطني الدورية التي أقامها مركز امللك عبدالعزيز للحوار الوطني، أثناء مناقشاته وحواراته مع بعض التوجهات الوطنية، فتعلمنا منه، حفظه الله، انتقاء الكلمات، واختيار العبارات بدقة متناهية؛ في تتابع مـشـوق، يجبر متلقيه على اإلنـصـات واإلصــغــاء، طواعية دون مجاملة، التي غالبا ما تكون تحديا مهما، وتعرقل الرؤى الصادقة أمام املوضوعات املطروحة للنقاش. كما أود التعريج على جانب مهم من حياته، وملمح حضاري من شخصية معالي الـوالـد الـدكـتـور عبدالله بـن عمر نصيف، الذي كان يتمتع بسبيكة رائعة من الصفات الحميدة وهو نزوعه إلى هـدوء طائع مرتكز على خلقه الدمث، وأدبــه الجم، تسود محياه السكينة والدعة واالطمئنان، الذي عرف به، حفظه الله؛ فظل دائما محافظا على ابتسامته، التي تجذبك لالقتراب منه واإلفــادة من علمه والذي برع فيه: دينيا، وحواريا، وثقافيا، وفكريا.. ستظل سيرة معالي الوالد الدكتور عبدالله عمر نصيف، مزهوة بــالــخــيــر، مــتــدفــقــة بــالــعــطــاء، بــوصــفــه مــدرســة وطــنــيــة، ممزوجة بأصالة العبق واإلبـــداع، يتعلم منها رواد العلم، ويـتـزود منها أصـحـاب الهمم العالية، وهــي حياة عطرة تجد فـي رحلها عبق اإلبداع.. وفــي الـخـتـام أدعـــو املــولــى عــز وجـــل، أن يـسـلـم أبــا عـمـر، ويشفيه ويعافيه، ويحفظه، والدا ومعلما وملهما، وأن يمنحه طول العمر املقترن بالصحة والسالمة والعافية والخير والحبور والسرور.