تشريك الفكر
انشغلت دوائر صنع القرار العاملي خالل السنوات األخيرة املاضية بالجماعات اإلرهابية املتطرفة كداعش والنصرة وغيرها، والتي ارتــكــز عـمـاد فـكـرهـا عـلـى األفــكــار املـتـطـرفـة واملــتــشــددة الـتـي شكلت نواة أعمالها اإلجرامية وعملياتها اإلرهابية، ولهذا كان األمير محمد بن سلمان واضحًا ومحددًا عندما اهتم بمحاربة التطرف الفكري أوال، ألن الفكر هو املحرك األول والدافع الرئيسي الذي يقف خلف جميع العمليات اإلرهابية، كما أنه القاسم املشترك بني جميع تلك الجماعات. دعـونـا نحكم التاريخ هنا، لفترة طويلة ظـل التيار السائد هـو تيار الصحوة، والذي نما وتمدد وتوسع تحت ستار تجديد الدعوة اإلسالمية، غير أنه في واقع األمر قامت هذه الجماعات بتشريك الفكر، مثلما يتم تشريك األلغام تمامًا، وهو مـا تـرتـب عليه الحـقـًا انـفـجـار تلك األفــكــار فـي شكل جـمـاعـات متطرفة مهووسة بترهيب وقتل األبرياء بدون تفكير وال رحمة، بل ومغرمة بتهديد أمن املجتمع كله وتقويض استقراره سواء بأفكارها أو بأفعالها. من يقرأ ويستقصي في واقع وتاريخ تلك الجماعات سيالحظ أن فكرهم موسوم بصفة عامة بالتناقض والالمنطقية، واألمثلة على ذلك أكثر من أن تعد أو تحصى، فعلى سبيل املثال فقط - ال الحصر - نراهم يفتون بتحريم الغناء، ويعتبرونه من أنواع الفسق والفجور املحرم، غير أنهم في نفس الوقت يقتلون النفس التي حرم الله إال بالحق، هم يؤمنون بشدة أن قيادة املـرأة للسيارة من املحرمات، لكن في املقابل يعتقدون أن خروجها برفقة سائق أجنبي أمر مباح ال غبار عليه. املعركة التي يقودها األمير محمد بن سلمان ليست معركة عسكرية فحسب، بل هى معركة فكرية في األساس بالدرجة األولى، وال تقل خطورتها وال أهميتها عن الحروب العسكرية امليدانية التي تتم بالطائرات واملدرعات وغيرها من أسلحة الحرب الحديثة، إنها حرب لتفكيك األلغام املوقوتة والشراك الذهنية املتمثلة في األفكار املتطرفة، وذلك قبل انفجارها في وجه املجتمع برمته، فالتيارات الفكرية املسيطرة على عقول قطاع كبير من شبابنا بمثابة ألغام وشــراك قاتلة وقنابل موقوتة، وتفكيكها يحتاج لذكاء وجــرأة ومهارة ال تتوفر ألي من كـان، فاألمير الشاب يسعى لبناء مملكة جـديـدة، ليس لألجيال الحالية فحسب، بل لألجيال القادمة وللمستقبل بأكمله. ما يقوم به األمير محمد بن سلمان هو محاولة جــادة لتغيير نمط حياة ظل جاثمًا على صدورنا لعقود طويلة، عبئًا ثقيال ناء ت به أكتافنا ولم يدر بخلدنا يومًا أننا سنتمكن من التحرر منه والتخلص من أثقاله على هـذا النحو، فقد قــام بإنجاز مهمات طاملا تصورنا أنها ضــرب مـن ضــروب املستحيالت، وتلك املهمات ليست مجموعة من املهمات املنفصلة في عدد من القطاعات املختلفة، بل هى منظومة متكاملة من املهمات املتشابكة، عمادها تحرير العقل الجمعي الــســعــودي، واالزدهــــــار االقــتــصــادي املــرتــكــز عـلـى املـــــوارد الـتـنـمـويـة املستدامة، واالنفتاح على العالم من خالل تقديم صورة مشرفة وواعية وناضجة للمجتمع الـسـعـودي، وبـنـاء قــوة عسكرية متينة تضمن التفوق فـي الـنـزاعـات اإلقليمية، مع بناء شراكات وتحالفات دولية تضمن للمملكة أن تحتل مكانتها املرموقة التي تستحقها بني جميع دول العالم، والتي تتناسب مع وزنها الدولي وثقلها االقتصادي والسياسي. ما ذكرني بتلك اإلنـجـازات هو ما شهدته بنفسي عند قيامي بإحدى الرحالت الداخلية فـي اململكة منذ عــدة أيــام، فقد وجــدت الشباب السعوديني وقــد حلوا محل الكثير مـن العمالة الــوافــدة، فاملقاهي ومكاتب تأجير الـسـيـارات وغيرها تزخر بالسعوديني، ومما ال شك فيه أن االستمرار في تطبيق قــرارات السعودة سيسهم عـلـى نـحـو تــدريــجــي فــي امــتــصــاص أعــــداد الـبـطـالـة املــتــزايــدة باطراد، وستخلق الكثير من الوظائف للسعوديني في سوق العمل املحلي، غير أنه من الواضح أن هذا النهج اإلصالحي ال يعجب أنصار الصحوة، وال يروق لهم وهم يشاهدون بأعينهم تقوض العالم البالي الــذي طـاملـوا سعوا لتشييده، وخنق اململكة وشعبها داخـل أســواره، فنراهم ينقبون هنا وهناك عن مقالة بائسة أو تغريدة متعثرة ينفثون من خاللها حقدهم وبغضهم ملسيرة اإلصالح والتنمية التي بدأت تتفتح ثمارها اآلن، غير أنه في كل األحوال ال يزعجنا النقد وال الحقد كثيرًا، فال تقذف بالحجارة سـوى الشجرة الريانة املثمرة، وكلما كـان النجاح عظيمًا كثر الحاقدون واملغرضون والكارهون. * كاتب سعودي