«األقليات املسلمة».. بني مطرقة احلركيني وسندان العزلة
في خضم سلسلة ممتدة من األزمات والصعوبات والتحديات التي تواجهها املجتمعات املسلمة في الدول غير اإلسالمية، نظمت الشقيقة اإلمارات يومي الثامن والتاسع من مايو الـجـاري مؤتمرًا عامليًا تحت مسمى «مستقبل الوجود اإلسالمي في املجتمعات غير املسلمة.. الفرص والتحديات» بمشاركة كوكبة من املفكرين والباحثني اإلســـالمـــيـــني واملـــفـــتـــني والــشــخــصــيــات الــســيــاســيــة والدينية واإلعالمية وممثلي الجاليات اإلسالمية حول العالم، وناقش املؤتمر األهمية الحضارية لفقه املواطنة كبديل لفقه األقليات، قاطعًا الطريق على مشاريع ومؤتمرات متزامنة ومتشابهة في عناوينها العريضة ومختلفة في املضمون تقودها تنظيمات اإلسالم الحركي وعلى رأسها التنظيم الدولي لجماعة اإلخوان وأذرعه املتفرعة في الغرب والشرق في محاولة منها لالستمرار فــي اخــتــطــاف الــخــطــاب الــديــنــي وإبـــــراز املـفـاهـيـم الراديكالية التي ساهمت في عـزل األقليات املسلمة حـول العالم وتعطيل اندماجها في النسيج االجتماعي لألوطان التي ينتمون إليها وإحالتهم إلى ورقة ضغط على حكومات تلك الـدول لتحقيق مكاسب وأطماع سياسية من ورائها بدال من أن يكونوا أعضاء فاعلني ومواطنني صالحني في دولهم انطالقا مما يتدينون به من قيم دينية سامية بحيث يساهم وجودهم اإلسالمي في مجتمعهم إيجابًا في بناء شراكة حضارية تخدم قيم التعددية الثقافية باالنسجام مع املكونات األخرى في مجتمعاتهم. ال شــك أن الــحــدث الــعــاملــي الـــذي نظمته الـعـاصـمـة اإلماراتية أبوظبي قدم بأطروحاته وتوصياته وإعالنه تأسيس «املجلس العاملي للمجتمعات املسلمة» بارقة أمل تمهد الطريق لالرتقاء بدور هذه املجتمعات املسلمة في أوطانها واالنتقال من مرحلة فقه الضرورة أو ما يسمى أيضًا بفقه األقليات إلى مرحلة «فقه املواطنة» الذي تتفاعل فيه األصول الشرعية مع واقع املجتمعات املسلمة فـي الـغـرب لتصدر مـن خالله أحكاما وفـتـاوى تحقق مقصد املـواطـنـة الصالحة للمسلمني فـي الــدول غير املسلمة، إضافة إلـى السعي للحفاظ على حقوقها األساسية للحد من التمييز العنصري مـن ناحية والـتـصـدي للتطرف وانجراف أبـنـائـهـا خـلـف الــجــمــاعــات والـتـنـظـيـمـات الـحـزبـيـة والحركية املــتــشــددة، ولـكـن علينا أن نــدرك أن هــذا املــســار ليس مفروشًا بالورود أمام ما يفرضه الواقع من حقائق نتيجة النفق املظلم الذي حفرته هذه الجماعات املتطرفة على مدى عقود بنشرها مفاهيم التكفير والـتـطـرف وتكريسها ملفاهيم بـاتـت شائعة في أوساط األقليات املسلمة في املجتمعات الغربية على وجه الــخــصــوص وهـــي أن وجــودهــم فـيـهـا وجـــود عــرضــي وظرفي ومسألة االنــدمــاج مـع املكونات األخــرى تتعارض مـع املبادئ واألسس العقائدية التي روجوا لها لتفصلهم تمامًا عن الواقع وعلى رأسها شعارات العودة إلى التاريخ اإلسالمي البعيد أو ما يعتبرونه عـودة إلى الدين الخالص باالستناد إلى النص املقدس والتاريخ والسلف الصالح والتي يــرون أنها الطريق الوحيد للعودة إلـى تاريخ الفتوحات اإلسالمية املجيد حني كانت الغلبة لألمة اإلسالمية، وهو امتداد للشعور السائد في العالم اإلسالمي واملتنامي منذ زمن االستعمار الغربي للدول العربية وتقسيمات «سايكس-بيكو». فمنذ عقود خلت، وكبرى مدن أوروبا وعواصمها وضواحيها تـعـج بــالــتــيــارات اإلســالمــويــة والــجــهــاديــة الــتــي انتقلت إليها فـي هـجـرات شبه جماعية بعد حـادثـة محاولة اغتيال جمال عـبـدالـنـاصـر منتصف الـخـمـسـيـنـات، وهـــذه الـجـمـاعـات كانت وال تـــزال تتلقى دعــمــًا خـارجـيـًا مــن دول وحــكــومــات وأجهزة استخباراتية بــات بعضها معروفًا، وفــي مقدمة املستفيدين تــأتــي حــركــة اإلخـــــوان املـسـلـمـني الــتــي أســســت قــبــل عـــدة عقود مسجدًا فـي ميونخ بدعم مـن استخبارات تابعة لــدول غربية وفقًا لوثائق أفـرجـت عنها تلك األجـهـزة الحـقـًا، ليصبح مقرًا وموئال للمتشددين وأعضاء الجماعة لنشر تطرفهم ونفوذهم على امتداد أوروبا، وفي الثالثة العقود األخيرة شكلت فرنسا وبريطانيا وعدد من العواصم األوروبية بيئة خصبة لتنامي جماعات اإلســالم السياسي نتيجة الستغالل هـذه الجماعات الـــقـــوانـــني املــدنــيــة واملــــبــــادئ الـــدســـتـــوريـــة فـــي أوروبـــــــا والتي تكفل لهم حرية كبيرة للتحرك والـتـوسـع فـي البناء الحركي واملؤسساتي ملشاريعهم، وبالتالي هيأت األنظمة األوروبية بشكل غير مباشر مناخًا مثاليًا لتكاثر الـحـركـات األصولية املتطرفة، ففي العام 1983 أسس اإلخــوان في باريس «اتحاد املنظمات اإلسالمية» تحت مظلة «االتحاد األوروبي للمنظمات اإلسالمية» وشكلوا مع الوقت أكثر من 200 جمعية إسالمية في أرجاء فرنسا، ساهمت في إشاعة نهج الجماعة الذي أصبح هو الطاغي بني املجتمعات املسلمة في أرجاء مدن فرنسا، وال نغفل أيضًا نفوذ الحركات اإلسالموية الراديكالية القادمة من دول شمال أفريقيا التي أسست «الفيدرالية الوطنية ملسلمي فرنسا» وجماعات الدعوة املكونة من أبناء الجاليات املغاربية والتونسية والـجـزائـريـة الـتـي انـتـشـرت فـي بـاريـس وتوسعت أذرعــهــا فــي لــنــدن ورومــــا وبــروكــســل ومــدريــد وعـــدد مــن املدن األخرى، وتناميها تحول مع الوقت إلى مكونات متوحشة في وجه الحكومات األوروبـيـة التي رعتها من أجل توظيفها في خدمة أهداف سياسية صرفة، من بينها مواجهة املد الشيوعي القادم من االتحاد السوفيتي كأحد الدوافع. وخــالل فترة مـا يسمى بربيع الــثــورات، عــاد بعض مـن هؤالء الــذيــن تــرعــرعــوا فــي املــنــظــمــات اإلســالمــويــة الــراديــكــالــيــة في العواصم الغربية إلى بعض الدول العربية مثل تونس وليبيا ومصر ليتحدوا مع الجماعة األم التي انبثقوا منها ودعموها بـمـا اكـتـسـبـوه فــي الــغــرب مــن خــبــرات فــي الـعـمـل املؤسساتي مـمـا عــزز مــن تقدمهم فــي االنــتــخــابــات الـبـرملـانـيـة والرئاسية ووصـولـهـم لـسـدة السلطة فـي عــدة دول عربية، ولكنها كانت تجربة سياسية فاشلة ال يسعنا حصرها وتحليلها في هذا الحيز، إال أنه يجب أن نلفت إلى أن فشل مشاريعهم السياسية دفعهم نحو املمارسات التخريبية واإلرهابية. هــــذا جــــزء يــســيــر مــمــا يــجــري داخــــل املــجــتــمــعــات املــســلــمــة في الــغــرب وكـيـف وملـــاذا اسـتـشـرى فيها ســرطــان الـتـطـرف منذ ما ال يــقــل عـــن 6 عــقــود داخــــل املــســاجــد واملـــــــدارس والجمعيات اإلسالمية في أوروبا، وبحاجة إلى عمل دؤوب لتفكيك خطاب الالهوت السياسي ومواجهة املؤسسات الحكومية في الغرب بــالــطــروحــات املـعـرفـيـة وحــلــول بـديـلـة تـحـيـدهـا عــن احتضان الحركية والحزبية اإلسالموية.. وما سيكون االنتقال من فقه الضرورة إلى «فقه املواطنة» سوى خطوة أولى في رحلة األلف ميل.