إسبانيا.. أول «انقالب» دستوري!
خالفًا ملا يعتقده الكثيرون ال تنتج الديمقراطية، بــالــضــرورة، أنـظـمـة حـكـم مـسـتـقـرة. صـحـيـح أن تــــداول الـسـلـطـة، فــي األنـظـمـة الـديـمـقـراطـيـة يتم سلميًا، إال أنـه ليس بالضرورة أن ينتج عن ذلـك أنظمة حكم مستقرة. عكس ما يمكن أن يقال عن أنظمة الحكم الشمولية، التي قد تتمتع بقدر أكبر من االستقرار السياسي، إن لم يكن بفضل إجراءاتها القمعية! االستقرار املعني به هنا: يكون على مستوى النخب الحاكمة (أنظمة الـحـكـم)، وليس بالضرورة على مستوى الكيان السياسي (الدولة). في بعض األنظمة البرملانية، ال تتمكن الحكومات من الصمود في سدة الحكم، املدة املحددة لها في الدستور. في الدول التي تأخذ بنظام تعدد األحزاب، نادرًا ما تصمد االئتالفات املكونة للحكومة املـدة املنصوص عليها في الدستور. حيث تتذبذب اإلرادة العامة، من تيار سياسي آلخر، أثناء الدورة البرملانية، دون ما حاجة لحسم الصراعات السياسية داخل البرملان بني الـحـكـومـة واملــعــارضــة، بــالــعــودة إلـــى صــنــاديــق االقـــتـــراع، من جديد. لكن عدم االستقرار هنا ال يعني فقدان حالة التوازن في النظام السياسي. ففي الــدول التي تأخذ بنظام تعدد األحـــزاب، مثل إيطاليا وإسبانيا، تعاني من عدم االستقرار، جراء احتماالت عــــدم ضــمــان الــتــوافــق بـــني طــمــوح الــحــكــومــة بــالــحــفــاظ على السلطة وإرادة البرملان بتأكيد سيادته على السلطة التنفيذية. عكس األنظمة الرئاسية األكثر استقرارًا واألمــن توازنًا، مثل الــواليــات املـتـحـدة.. واألنظمة شبه الرئاسية، مثل فرنسا. في األنظمة البرملانية، ال تحسم صناديق االقتراع حركة الصراع على السلطة، بل تستمر تحت قبة البرملان، وطوال فترة الدورة البرملانية، التي يحددها الدستور. إال أن الــصــراع على السلطة بـني الحكومة واملــعــارضــة، تحت قبة البرملان، وإن كان يعكس الخصومة املريرة بني الحكومة واملعارضة، إال أنه أكثر انضباطًا ونضوجًا، في ما يخص قيم وحـركـة الـتـداول السلمي للسلطة. فـي داخــل النظام البرملاني إجـــراءات ومـحـددات لـلـتـوازن، تتكفل بتسوية الـصـراعـات بني الـحـكـومـة واملــعــارضــة، دون الـحـاجـة لـلـعـودة لــــإرادة العامة للناخبني. الحكومة تستطيع أن تبقى في السلطة حتى املدة املنصوص عليها فـي الـدسـتـور، طاملا أنها تتمتع باألغلبية املطلقة بــني مـقـاعـد الــبــرملــان، الـتـي أتــت بـهـا لـسـدة الـحـكـم من البداية. إذا فقدت الحكومة -في أي وقت- أثناء الدورة البرملانية األغلبية املطلقة تنشأ ما يسمى بحالة فقدان ثقة البرملان بها، مما تتطور معها فرصة للمعارضة أن تتقلد السلطة، دونما حــاجــة لـلـجـوء إلـــى مـرجـعـيـة الــنــاخــبــني، لـفـض االشــتــبــاك بني الحكومة واملعارضة، في ما يعرف بإجراء انتخابات مبكرة. إذن: الــنــظــام الــبــرملــانــي، بــالــرغــم مــن مـشـكـلـة عـــدم االستقرار املتأصلة في حركته، إال أنـه يمتلك تـوازنـًا ذاتـيـًا، يحول بينه وبني استفحال حالة عدم االستقرار املتأصلة فيه، دونما حاجة إلــى تدخل عنيف مـن جهات خــارج مؤسسات الحكم املدنية، تخلق حالة استقرار وهمية، بعيدًا عن اإلرادة العامة للناس.. أو اضطرار اللجوء لخيارات ديمقراطية، خـارج قبة البرملان، كإجراء انتخابات تشريعية مبكرة. ليتم استبعاد أي شك في توازن النظام البرملاني وقدرته على التغلب على حالة عدم االستقرار املتأصلة فيه، ليس البرملان هو الذي يتحكم في مصير الحكومة ويعكس الطرف األقوى فـي معادلة الحكم، بـل نــرى النظام البرملاني يطور آلية ردع من داخله تحول دون استبداد البرملان واحتمال توغل سطوته على النظام السياسي. حتى دون سيادة أجـواء عدم الثقة في البرملان تجاه الحكومة، لألخيرة -فــي أي وقــت- حـل البرملان والدعوة النتخابات عامة جديدة، ملواجهة أي توجه في داخل الـبـرملـان لحجب الثقة عـنـهـا.. أو أي تقدير مــن ناحيتها ألي صعوبة تواجهها من البرملان في أداء عملها، أو تقدير ارتفاع سقف الثقة لـدى رمـوزهـا بـزيـادة نصاب األغلبية، قبل حلول مـوعـد االنـتـخـابـات الـقـادمـة، الـتـي قـد ال تضمن حينها الفوز بها. على أي حال: يحقق النظام البرملاني توازنه، للتغلب على حالة عدم االستقرار املتأصلة في حركته. ما جرى في إسبانيا يوم الجمعة املاضي من حجب ثقة البرملان في حكومة رئيس الــوزراء اإلسباني (ماريانوي راخــوي)، ما هـو إال نـمـوذج «كالسيكي» لـعـدم اسـتـقـرار الـنـظـام البرملاني، حيث استطاعت املعارضة بزعامة رئيس الـحـزب االشتراكي (بيدرو سانشيز) أن تصل إلى السلطة عن طريق أول انقالب دسـتـوري في عهد الديمقراطية اإلسبانية الحديثة! حــدث لم تستطع املعارضة تحقيقه عـن طريق صناديق االقــتــراع، من سنتني مـضـتـا. بـغـض الـنـظـر عــن مــزاعــم الــفــســاد، الــتــي طالت حزب رئيس الوزراء السابق، تبقى حقيقة عدم استقرار النظام البرملاني مع خاصية توازنه، من أهم مزايا النظام الديمقراطي املعقدة، التي ال تتجاهل الحركة األبدية للصراع على السلطة، وفي نفس الوقت، تمتلك األدوات الفعالة لضمان عدم خروج حـركـة الــصــراع تـلـك عــن الـسـيـطـرة. مــع تـأكـيـد الـقـاعـدة األزلية للديمقراطية فــي تـوكـيـد الــســيــادة الـشـعـبـيـة، كـمـصـدر وحيد لشرعية السلطة. يـبـقـى الــشــك فـــي قــــدرة الــحــكــومــة االشــتــراكــيــة الــجــديــدة على الصمود لنهاية الدورة البرملانية الحالية خريف ،2020 ألنها تحكم بأغلبية ائتالفية ضئيلة ال تتجاوز 10 مقاعد من 0٥3 مقعدًا. حزب صغير ال يتجاوز عدد مقاعده الخمسة، مثل حزب الـبـاسـك، الــذي أقـصـى رئـيـس الــــوزراء الـسـابـق مـاريـو راخوي، كفيل بأن يطيح برئيس الوزراء الجديد (بيدرو سانشيز). في النهاية: تبقى حقيقة فاعلية النظام البرملاني في التغلب على طبيعته غير املستقرة عن طريق آلية توازنه الفعالة، من أهم خصائص الديمقراطية النيابية الحديثة.