أوروبا التائهة
في األول من يناير عام ٠٠٠2 تاريخ بـــــدء الــعــمــلــة األوروبــــــيــــــة املوحدة (الـــــيـــــورو) كـــانـــت ثــقــة األوروبــــيــــني بأنفسهم وعملتهم ومشروع وحدتهم تبلغ عنان السماء، ولكن اليوم وبعد مرور ثمانية عشر عاما، تراجعت تلك الثقة حتى وصلت الحضيض، وبدأت تــيــارات سياسية تصل إلــى ســدة الحكم تعارض بعنف املشروع األوروبي برمته، على سبيل املثال ال الحصر ما حدث في إيطاليا قبل أسابيع قليلة عندما اكتسحت األحــزاب الشعبوية االنتخابات البرملانية، وكذا األمر في بلغاريا والنمسا، وحتى في فرنسا وأملانيا اليمني املتطرف في كل سنة وفي كل انتخابات يكسب أرضا جديدة. وفي السنوات األخيرة كان إصـاح مؤسسات االتحاد األوروبي أحــد أهــم وعـــود األحــــزاب الـجـمـهـوريـة ســـواء عند يمني الوسط أو يسار الوسط. ولكن هـذه الوعود لم تترجم إلـى إنـجـازات على أرض الـواقـع، بل إن األزمات األوروبية تتعمق يوما بعد يوم. فــي أثــنــاء وبــعــد نــهــايــة الــحــرب الــعــاملــيــة الثانية تكرس على املسرح الدولي تحالف تقوده الواليات املتحدة األمريكية، وجــد هــذا التحالف ضرورته اإلستراتيجية فـي الـحـرب الــبــاردة حيث اعتبرت أوروبــا الجبهة املتقدمة لتلك الحرب. وهـذا األمر تــكــرس بـاعـتـمـاد أوروبــــي مــتــزايــد عـلـى الواليات املــتــحــدة فـــي حــفــظ األمـــــن والــســلــم عــلــى مستوى الـقـارة، ثم انعكس هـذا التحالف على املستويات األخـــرى، ولـعـل أهمها إعـــادة إعـمـار أوروبـــا فيما سمي «مـشـروع مــارشــال»، حيث ضخت الواليات املتحدة مئات املليارات من أجل إعادة إعمار القارة الـعـجـوز املــهــدمــة. ثــم مــا لبثت الــواليــات املتحدة أن أصــبــحــت قـــائـــدة الــتــحــالــف الــغــربــي. فأصبح هناك اعتماد كبير جـدا من قبل األوروبـيـني على الضفة األخرى من األطلسي سواء من حيث األمن واالستقرار أو من ناحية التجارة الحرة وتبادل السلع بني الضفتني. بـــالـــرغـــم مــــن نــهــايــة الــــحــــرب الـــــبـــــاردة فــــي بداية الــتــســعــيــنــات إال أن نــمــط الـــعـــاقـــة األوروبـــــيـــــة - األمـــريـــكـــيـــة لــــم يــتــغــيــر، ولـــــم تــعــمــد أوروبــــــــا إلى الفطام من االعتماد على أمريكا. حتى وإن كانت الــتــســاؤالت حــول حلف شـمـال األطـلـسـي (الناتو) بدأت بالتصاعد وخصوصا حول تحديد العدو. ألحت أوروبا أن هناك أعداء كثرًا يمكن أن يواجههم الـحـلـف وعــلــى رأســهــم روســيــا وإيـــــران واإلرهــــاب الـــدولـــي. وكـــان هــنــاك قـنـاعـة أوروبـــيـــة راســخــة أن الحماية األمريكية هي مصلحة أمريكية بالدرجة األولى لذلك فهي تحصيل حاصل. ويبدو أن هذه الــقــنــاعــة األوروبـــيـــة كــانــت مـــوجـــودة عــنــد صناع الـــقـــرار وراســـمـــي اإلســتــراتــيــجــيــات فـــي الواليات املتحدة ســواء كانوا ديمقراطيني أو جمهوريني. حـتـى وصــل إلــى ســدة الـحـكـم فــي الـبـيـت األبيض الرئيس األمريكي دونالد ترمب. ومنذ ذلك الحني ويــبــدو أنــنــا نــتــحــدث عــن عــالــم مـخـتـلـف عــن ذلك الـــذي ألـفـنـاه مـنـذ الــحــرب الـعـاملـيـة الـثـانـيـة، حيث تتغير التحالفات وحـيـث الرئيس الــذي يتعامل مع القضايا الدولية على أساس املصلحة املطلقة لــلــواليــات املــتــحــدة بــالــدرجــة األولــــى تـحـت شعار (أمريكا أوال). من الـقـرارات األولــى التي اتخذتها إدارة الرئيس تـــرمـــب، انــســحــاب الــــواليــــات املــتــحــدة األمريكية مــن اتــفــاقــيــة بــاريــس لــلــمــنــاخ، والـحـقـيـقـة أن هذا االنسحاب مثل ضربة عنيفة للجهود التي بذلها األوروبيون وبخاصة الفرنسيني من أجل الوصول إلى هذه االتفاقية، صحيح أن الرئيس األمريكي قـــد وعــــد نــاخــبــيــه بــأنــه ســــوف يـنـسـحـب مـــن هذه االتفاقية، إال أن األوروبيني كانوا ينظرون إلى تلك الوعود االنتخابية على غير محمل الجد، باعتبار أن إكراهات الواقع سوف تجبر الرئيس األمريكي على عــدم تنفيذ وعـــوده، ولـكـن تحليلهم لـم يكن دقيقا باعتبار أنـنـا نتعامل مـع رئـيـس مختلف. ثم بـدأت الـقـرارات األمريكية تتوالى ولعل أهمها كان دعوة األوروبيني باملشاركة الفاعلة في تمويل حلف شمال األطلسي إذا أرادوا أن يكون للواليات املتحدة دور في حماية األمن والسلم األوروبيني، وخصوصا فـي شــرق أوروبـــا حيث تمثل روسيا تــهــديــدا حقيقيا. عـنـد ذلـــك أدرك األوروبـــيـــون أن لحظة الفطام عن الدعم األمريكي قد حانت. أخــيــرا أصــــدر تــرمــب قـــــرارا بــفــرض ضــرائــب على واردات األملـــنـــيـــوم وكـــذلـــك الــصــلــب مـــن أوروبــــــا واملـــكـــســـيـــك وكـــــنـــــدا. أثـــــــار ذلــــــك غـــضـــب الحلفاء التقليديني لــلــواليــات املــتــحــدة، ولـكـن هــذا القرار أظهر بما ال يدع مجاال للشك مدى ضعف االتحاد األوروبــي. تبدو أوروبــا إزاء هذا القرار مصدومة وتــائــهــة، عــاجــزة عــن اخــتــيــار الــــرد املــنــاســب، هل تــعــامــل الـــواليـــات املــتــحــدة بــاملــثــل وهـــي تـعـلـم أن ذلك سوف ينعكس عليها بالسلب، أم تصبر على قرارات ترمب بما يعود على اقتصادها وشركاتها بـالـسـلـب أيــضــا. أوروبــــا الــتــي تــريــد أن تــكــون ندا لألقوياء عليها أن تكون قوية، عسكريا وسياسيا واقـــتـــصـــاديـــا، ولــيــســت أوروبــــــا املــفــكــكــة سياسيا واملـريـضـة اقـتـصـاديـا وغـيـر الــقــادرة على حماية نفسها منفردة عسكريا. ولعل الضعف األوروبي يتبدى أكثر وضوحا في موقفه من قرار الرئيس األمريكي باالنسحاب من االتفاق النووي مع إيــران، فأصبحت بني املطرقة والسندان عندما عارضت املوقف األمريكي. كان الــخــيــار األمــريــكــي واضــحــا إمـــا أن تــكــونــوا معنا أو مع اإليرانيني، ولكن أوروبــا لم تكن مع البيت األبـــيـــض وهـــــي غــيــر قـــــــادرة أن تـــكـــون مـــع نظام املالي، الـذي صرح كبيرهم بأن على األوروبيني أن ال يحلموا بوقف البرنامج الصاروخي، وكذلك طهران لن تغير من سياستها في الشرق األوسط. أوروبــــا هــذه الـعـالـقـة بــني طــهــران وواشـنـطـن غير قـــادرة أصــا على حماية شركاتها فـي إيـــران، بل إن الشركات الكبرى بدأت تلملم حقائبها وتغادر طهران. فـإذا كان نظام املالي يراهن على أوروبا فــقــد يــصــدق فــي حـقـهـمـا املــثــل الـشـعـبـي (اجتمع املتعوس مع خائب الرجاء).