Okaz

كل الناس طيبون!

- د. فؤاد مصطفى عزب * fouad5azab@gmail.com * كاتب سعودي

الــذكــري­ــات مــثــل املــشــاع­ــر تـمـضـي بــا جواب شـــــاف.. تــجــد الــيــوم هــو نـفـسـه الــيــوم ولكنه يــتــرك لـكـل امـــرئ بصمة مختلفة يــصــور كل إنسان فيلمه الخاص عن الحكاية نفسها.. أحيانًا عندما أفكر في البدايات.. أستعيد حياتي.. أرى كل ما عشته في أقل من ملحة أحيانًا في لحظة تختصر الزمن.. يمر خيط الذكريات.. زمن النعيم.. ذكرى أقوى من أي حجاب.. عندما أبحث في ذهني كيف بدأت عاقتي بالدين والصاة أطل عـلـى أيـــام رحــبــة.. شــاهــدت جــدي منتصبًا فــي أحــد األيام كـــان يـقـف عـلـى قـدمـيـه الــعــاري­ــتــني مــرتــديـ­ـًا ثــوبــه األبيض وعلى رأسه كوفية خطوت إلى داخل الحجرة دون أن أغلق الباب ورائـــي.. رمـش بعينيه كأنه الحـظ وجــودي لكنه لم يلتفت إلى ظلي كان يتمتم بصوت خفيض لم أتبني سوى كلمة واحدة هي (الله أكبر) يعلو صوته بها بني الكلمات تقدمت بخطوات حذره ودرت حوله.. أشاهد الرجل املهيب من مختلف الجهات وهو ينتصب ويرفع يده على صدره أو خلف أذنـيـه ثـم ينحني فـجـاءة يسجد مخفضًا هامته حـتـى األرض كــان يـتـوسـل ويـتـضـرع لـكـائـن ال أره ويكاد يــنــهــا­ر أمــامــه ظـلـلـت واقــفــًا بــالــقــ­رب مــنــه ال أحــــرك ساكنًا أحـسـسـت أنــه يـرمـقـنـي مــن طــرف خـفـي فأكملت خطواتي حــتــى أصــبــحــ­ت وراءه أتــبــعــ­ه مـــن الــخــلــ­ف وهـــو ينتصب ويــنــحــ­نــي ويـــركـــ­ع ويــســجــ­د كــالــجــ­بــل الــعــتــ­يــد، كــــان جدي عماقا وكان عنوانا للرهبة أستمرت عيناي تتبعان حركة الصعود والهبوط في الجسم والخواطر تــروح وتجيء.. فكرة أضاءت في ذهني مثل النور القوي فانجذبت إليها عندما سجد على األرض تبددت الرهبة وتاشى الخوف زاد اإلغــراء بحيث لم أعـد أقاومه وهكذا في قفزة فجائية طارت معها البقية الباقية من الحذر امتطيت ظهره غارسًا أصابعي في العنق املديدة حتى ال أقع اجتاحتني موجة من الفرحة القوية ضاع في ثناياها كل املخاوف أصبحت فوق الرجل العماق وهو يسجد وفي لحظة وجدت نفسي ملقًا على األرض أغلقت عيني أخــذت أبكي فجاءة وسط الــدمــوع ملـحـت نــظــرة غـريـبـة مــن جــدي وهــو يــقــول السام عليكم ورحمة الله وانحنى علي ورفعني بيديه ثم ربت على رأســي وأحـاطـنـي بـذراعـيـه قــال لـي ال تفعل ذلــك فأنا (أصلي) لله وبدأ يشرح لعقلي الصغير الصاة ومعناها كــان يحدثني ببساطة وسـاسـة وحـنـو كــان كـامـه كمياه نقية فــوق الـصـخـور وأغــلــق ذلــك املــوقــف مــع جــدي فصا من حياتي بكل تفاصيله ليبدأ فصل جديد منفصل عنه ومرتبط به فالحياة عملية مستمرة انتقلت إلى املدرسة.. كانت املدرسة امتدادًا طبيعيًا للتقاليد واألفكار ومقايس األخاق التي غرسها جدي وأبي في طوال السنوات األولى من عمري كانوا يبذلون جهدًا مستمرًا إلنارة عقلي وكان أسلوبهم يتميز بالبساطة والتركيز على ما هو مهم دون التفاصيل كنت أعلم أنني في ذلك الوقت لم أكن أملك شيئًا حقيقيًا في الحياة وال حتى (أب) كنت أطأطئ رأسي عندما أرى اآلباء ينتظرون أبناء هم خارج املدرسة كي ال تصطدم نـظـراتـي بعيون اآلبـــاء مـن حـولـي لكني كنت ابـنـًا ألولئك العظماء من املدرسني الذين ظلوا حاضرين في ذاكرتي ولم أنسهم أبــدًا أسماء كانت المعة وازدادت ملعانًا كانوا أهل علم وخبرة كانوا نهرًا في صورة معلم لم يفسدوا رؤيتنا لم يحدثونا عن (الصحوة) وال (السكرة) علمونا أن اللون األبيض سيد األلوان وأنه خبز اإلنسان وأنه بالقتل والكرة والـتـدمـي­ـر يـنـهـدم الـبـنـيـا­ن وأنــنــا يـجـب أن نطعم ونسقي ونسكن ونتطيب ونحب ونتفيأ وأن أولي العزم لهم موعد تحت ظال الكلم الطيب وأننا كبشر نتباين في الحروف واأللـفـاظ واملـذاهـب لكننا حتمًا نتوحد ونتجدد ونتزود من نبع ال ينضب علمونا أن ال يرتفع شيء فوق حب األم إال حب الله فلم يفكر أحد منا في قتل أمه كانوا يعلموننا دينًا نقيًا ال خزعبات ال تكفير ال كراهية ال تبرير للقتل ال عنصرية ال طائفية ال تفرقة بني البشر رسخوا مبادئ ال يمكن اقتاعها بـأي قـوة فـوق األرض أو تحتها أصبحنا قادرين على فهم ديننا تعلمنا منهم أكثر مما تعلمنا من الكتب كانوا أكبر من املـواد التي يدرسونها ال إسـراف وال مبالغة وال تحريض وال تشنج، كانوا يتلون علينا قصة يونس في بطن األحزان وأيوب عند ما مسه الضر ويوسف في قاع الجب ليقولوا لنا إن أبواب الرحمة مشروعة مهما كان الباء وإن الصخرة البد أن تتزحزح عن باب الكهف وإن كل األزمــات تمضي وتـزول ما دمنا نؤمن بالدعاء لم يدعونا يومًا للموت أدخلوا األحام بني ضلوعنا وجعلوا ورود الحياة في عـروة قمصاننا علمونا كيف نحفر في الصخر أو نصعد ونحفر في الغيم ونشق الجبال با سند لــم يـسـرقـوا أحـامـنـا لــم يضعونا فــي حـيـرة كــانــوا يقولو لنا إن العالم صغير ولكنه ليس ضيقًا كـانـوا يعلموننا الضحك ال البكاء والفرح ال الحزن وأن كل الناس طيبون وليسوا سيئني وأن فعل الخير ال يحتاج أذنًا من أحد وأن الـجـهـاد فـي تطوير الــوطــن.. أحـيـانـًا يهيأ لـي أن الصورة التي أحملها عن تلك األيــام أجمل مما كانت في الحقيقة وكــأنــهـ­ـا تـــداعـــ­ب خــيــالــ­ي لـتـضـفـي عــلــى نـفـسـهـا رونـــقـــًا لم يكن من صميمها ألـوانـًا زاهية إذا ما قورنت بما يحدث اليوم.. ربما تكون هذه الصورة الزاهية التي أنقلها إليكم أحاسيس أحملها ألشخاص ضربًا من الوهم لكن ما تركوه من آثار فينا لم تمحها السنني أصبحت مثل الصفات التي نضفيها على األبطال والعباقرة والقريبني منا والراحلني ترى هل أنا في حاجة إلى قدر من املبالغة والخيال تضاف إلى الحقيقة.. ال أعتقد!

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia