Okaz

الشريعة اخلالدة

-

إن األحكام الشرعية من الكتاب والسنة ال تتغير بتغيير الــزمــان واملــكــا­ن، وال يملك أحــد القدرة عــلــى تــغــيــي­ــرهــا أو تــبــديــ­لــهــا، فــهــي مـــن ثوابت املسلم وقرت في قلبه وعقله. يقول ابن القيم إن الشرائع كلها في أصولها وإن تباينت متفقة مركوز حسها في العقول، ولو وقعت على غير ما هي عليه لخرجت عن الحكمة واملـصـلـح­ـة والــرحــم­ــة، فـكـل مــا جـــاءت بــه الــرســل هــو مــن عند الله متحد األصـل، منها ما يتعلق بمصلحة ثابتة ال تخضع لظروف الزمان واملكان. كوجوب اإليمان بالله والصاة والزكاة والصيام والعدل والصدق، ومنه ما يتعلق بمصلحة تخضع لــظــروف الـــزمـــ­ان واملـــكــ­ـان واخـــتـــ­اف األحـــــو­ال فــهــذه املصلحة تختلف باختاف األجيال فيعتريها التبديل والتغيير، فالدين وحدة واحـدة، وإنما االختاف في الشرائع واملناهج. جاء في (إغاثة اللهفان) البـن القيم، أن األحكام نوعان، نـوع ال يتغير عن حالة واحــدة هو عليها ال بحسب األزمـنـة وال األمكنة وال اجتهاد األئمة كوجوب الواجبات وتحريم املحرمات والحدود، فا يتطرق إليها تغيير أو اجتهاد. والنوع الثاني ما يتغير بــحــســب اقــتــضــ­اء املــصــلـ­ـحــة الــعــامـ­ـة لـــه زمـــانـــ­ا ومــكــانـ­ـا وحاال كمقادير التقديرات وصفاتها، فإن الشارع يتنوع فيها بحسب املصلحة، وقد اتسمت الشريعة اإلسامية بالشمول والعموم والـخـلـود وال يعني هــذا أنـهـا نـصـت عـلـى كــل حـكـم وعـلـى كل واقعة بعينها فهي جاءت باملبادئ العامة والقواعد األساسية لـتـنـدرج تحتها كـافـة القضايا واملـسـائـ­ل الـتـي تستجد لتغير األزمان والعادات واألعراف. فاختاف األعراف والعادات يتبعه اخــتــاف الــحــاجـ­ـات واألغـــــ­راض واملــصــا­لــح فتختلف مناطات األحــكــا­م، واخــتــاف األحــكــا­م عـنـد اخــتــاف الــعــادا­ت لـيـس في الحقيقة باختاف في أصل الخطاب، وكون هذه األحكام أخذ بعضها باالجتهاد املتغير ال يخرجها عن الشريعة بل يصدق عليها أنها شريعة استناد إلى أدلة جواز االجتهاد واالستنباط وأحكام الشريعة املتفق عليها في وجدان كل مسلم، فالشريعة عصمها من التحريف والتبديل وذلــك بحفظه القرآن الكريم. يقول (القرطبي) إن أحد العلماء سئل لم جاز التبديل على أهل التوراة ولم يجز على أهل القرآن، فأجاب بأن الله عز وجل قال في أهل التوراة.. (بما استحفظوا من كتاب الله..) فوكل الحفظ إليهم فجاز التبديل عليهم. وقــال فـي الـقـرآن (إنــا نحن نزلنا الـذكـر وإنــا لـه لـحـافـظـو­ن) فلم يجز التبديل عليهم ألنــه وكل الحفظ إليه. في الشريعة اإلسامية مصطلح يعرف باملصلحة العامة أو املرسلة وتغليبها. وهـــــي عــــبــــ­ارة عــــن جــلــب مــنــفــع­ــة ودفــــــع مــــضــــ­رة، وأنــــــه يعني باملصلحة املـحـافـظ­ـة عـلـى مـقـصـود الــشــرع، ومـقـصـود الشرع هــو املـحـافـظ­ـة عـلـى الــديــن والــعــرض واملــــال والــعــقـ­ـل والنفس. وهي ما لو عرضت على العقول لتلقته بالقبول. وهذا ما كان أصحاب رســول الله يفعلونه فينظرون إلـى األمــر ومـا يحيط بـه مـن ظــروف ويـحـف بـه مـن مصالح ومـفـاسـد، ويـشـرعـون له الحكم املناسب وإن خالف ما كان في عهد رسول الله من حيث الظاهر، وليس هذا إعراضا منهم عن شريعة الله أو مخالفة لرسوله، بل هو سر التشريع الذي فهموه وهذه بعض األمثلة من األعمال املباحة ولكنها تركت من بـاب سد الـذرائـع، فعلى سبيل املثال: أخر سيدنا عمر صاة الفجر حتى أسفر ليغسل ثوبه من أثر االحتام، وقال لعمرو بن العاص: أغسل ما رأيت وأنضح ما لم أر. كذلك تطويل الصاة من األمور املباحة، ولكن قد تكون ذريعة إلـى فتنة الناس وتعريضهم للوسواس كما ترك أبو بكر وبعض الصحابة األضحية مخافة أن يظن الناس وجوبها وقضى عمر بتوريث الزوجة التي طلقها زوجها وهو في مـرض املــوت وذلــك سـدا لذريعة حرمانها من املـيـراث. كما أن سيدنا عمر أراد أن يـوسـع املسجد الــحــرام وعـنـدمـا اعتمر اشترى دورًا فهدمها وأدخلها في املسجد وهـدم على قوم من جيران املسجد أبوا أن يبيعوا فوضع لهم الثمن في بيت املال. واألمثلة كثيرة تطفح بها كتب الفقه والسيرة. ولو أننا أخذنا مـبـدأ املصلحة الـعـامـة وتغليبها على كثير مـن القضايا في زمننا الحاضر لوجدنا أن كثيرًا من األمور التي وقفنا أمامها حيارى زمنًا وأطلقنا حيالها الفتاوى الشاذة ومألنا أسماع الـدنـيـا تحريمًا وتجريمًا ووصـمـنـا مـن يـقـول بها بالتغريب واملؤامرة وجر املجتمع إلى الرذيلة والفجور، ولو طبقنا مبدأ تغليب املصلحة العامة ومقاصد الشريعة على كثير من األمور التي حرمناها سـنـوات عـديـدة ملـا تأخرنا عـن الـركـب املنطلق فـي ظـل الشريعة السمحاء ودفعنا ثمنًا غاليًا لها. وقـد اتفق العلماء على أن مقاصد الشريعة هي تحقيق مصالح الناس في الدنيا واآلخرة وفي العاجل واآلجل، وأن أحكام الله قائمة على رعاية املصالح، وأنه سبحانه شرع األحكام ملقاصد فليس بالتشديد والتضيق يتم الحفاظ على الشريعة اإلسامية، بل قد يؤدي ذلك إلى نتيجة عكسية خصوصًا في باب املعامات املبني أصا على جلب املصالح ودرء املفاسد. ألن الحفاظ على الشريعة يقتضي التجديد، وهــذا ما جعل شريعتنا الخالدة صالحة لكل العصور.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia