ترمب.. تغيير قواعد اللعبة !
مـــــن أهــــــم مـــعـــالـــم األنــــظــــمــــة الديموقراطية استقرارها. وهذا يعود لرسوخ قاعدة التداول الــســلــمــي لــلــســلــطــة، حــيــث تــحــتــكــم مؤسسات الدولة ورموزها لخيارات اإلرادة الشعبية، كمصدر حصري وحـيـد لشرعيتها السياسية. فـي األنـظـمـة الديموقراطية ال «قـدسـيـة» للمؤسسات وال لـلـرمـوز، وال حتى للدستور، خارج اإلرادة العامة للناس، التي تتجلى عن طريق آليات االنتخاب واالستفتاء، حيث يتحدد مصير رموز السلطة.. وشكل مؤسسات الحكم، بل وحتى مصير الكيان السياسي نفسه (الدولة). الـقـول بسلمية العمل السياسي، ال يعني الـزعـم بالقضاء على ظــاهــرة الــصــراع على السلطة. على العكس مــن ذلك تـمـامـًا. فـي املـمـارسـة الديموقراطية هـنـاك تأكيد لحركية الصراع السياسي، على مستوى الرموز واملؤسسات... بل وحتى على مستوى التوزيع الجغرافي للدولة. لكن، هذا الــصــراع عـلـى السلطة فــي داخـــل املجتمع الديموقراطي، وإن كــان حـــادًا فــي خــطــابــه.. مستقطبًا فــي حـركـتـه، ماكرًا فــي مــنــاوراتــه و«تـكـتـيـكـاتـه»، إال أنــه ال يـخـرج عــن سلمية حركته. هناك، في كل األحوال، مجال ليسفر الصراع األزلي على السلطة عـن واقعية حقيقته، فـي إطــار قيم املمارسة الديموقراطية، التي تهدف إلى «ترويض» حركة الصراع على السلطة في املجتمع، ال تجاهلها.. أو كبتها. فــي الــديــمــوقــراطــيــة، أيــضــًا: لـيـسـت هــنــاك حقيقة مطلقة.. ولــيــس هــنــاك مـــن يــدعــي امــتــاكــهــا أو احــتــكــارهــا. هناك بدائل متعددة، وقد تكون متضاربة، لحل مشاكل املجتمع السياسية واالقتصادية واالجتماعية، واملرجع دائمًا تكون اإلرادة الـعـامـة الخـتـيـار أي مـنـهـا، لـتـأخـذ فرصتها فترة زمنية محدودة. ال يمكن أن يعزى أي انتصار عسكري.. أو نمو اقتصادي.. أو نجاح في السياسة الخارجية، لشخص مــعــني.. أو حـــزب بـعـيـنـه.. أو نـخـبـة سـيـاسـيـة بــذاتــهــا. هذا فرق أساس بني األنظمة الديموقراطية واألنظمة الفاشية. بريطانيا انتصرت في الحرب العاملية الثانية ألن الشعب الــبــريــطــانــي، ولــيــس ونــســتــون تــشــرشــل، اخـــتـــار مواجهة األطماع التوسعية لهتلر في أوروبا. بينما انهزمت أملانيا في الحرب، ألن قـرار الحرب كان قـرار هتلر وليس الشعب األملاني. في الواليات املتحدة، هذه األيام، بوادر لتحول خطير في حركة وقيم املمارسة الديموقراطية. لم يحدث، في تاريخ الواليات أن تجرأ أي سياسي أو حزب، على قاعدة التداول السلمي للسلطة.. ولم يحدث في تاريخ الواليات املتحدة، أن أقدم أي من رؤسائها، أن يضع الشعب األمريكي في خيار بينه أو الفوضى والفقر. كما لـم يحدث أن انـحـاز رئيس الــبــاد أو اســتــجــدى فـئـة مــن املـجـتـمـع وحــرضــهــا، لدرجة اللجوء للعنف وتحدي قيم علمانية الدولة للحفاظ عليه في منصبه بدعم حزبه الذي يمثله في الحكومة، ليحول دون املضي في إجراءات عزله، في حال ما تغيرت تشكيلة الخريطة السياسية في الكونغرس، الخريف القادم. قـد يــرى البعض أن هــذا التصرف مـن قبل الرئيس ترمب مـتـسـقـًا مــع وعــــوده االنــتــخــابــيــة: بـــأن يـــحـــدث «ثـــــورة» في واشنطن، على النخب واملؤسسات التقليدية.. وأن يقضي على نفاق الصحافة وكذبها وتضليلها، على حد زعمه. لقد ظهر هذا العداء لقيم وحركة املمارسة الديموقراطية، في ما يخص تقليد التداول السلمي للسلطة مبكرًا، عندما قال عشية انتخابات 2016 الرئاسية، وقبل أن تعلن نتيجتها، أو حتى تظهر مؤشرات توجهها: إنه لو خسر تلك الليلة، فإنه لن يعترف بالهزيمة! سلوك لم يسبقه أحد من الرؤساء األمريكيني... وكأنه كان يعرف مسبقًا، أنه سيفوز في تلك االنتخابات، بطريقة أو بأخرى! كما أنــه فـي تقاليد املـمـارسـة الديموقراطية، لـم يـسـفـر أي رئيس أمريكي، في بداية واليته األولــى، أنه يسعى للفوز بوالية ثانية. عـادة ما يسفر عن مثل هذه الطموحات، إن وجــدت، قبيل االنتخابات التمهيدية الحزبية، في السنة األخيرة من واليـة الرئيس األولــى. لكن الرئيس ترمب من أول يوم دخل فيه البيت األبيض عبر عن طموحه في والية ثانية! امللفت هنا: أن نبرة طموحه البقاء في البيت األبيض زادت هــذه األيــــام، عـنـدمـا أخـــذت تحقيقات روبــــرت مولر تضيق عليه، مع احتماالت ظهور قرائن لتورطه فيها. ســـلـــوك الــرئــيــس تـــرمـــب غــيــر الــتــقــلــيــدي ولــهــجــة خطابه السياسي الحاد، ال تعكسان اتساقًا مع برنامجه االنتخابي الــشــعــبــوي، بــقــدر مــا تـعـكـسـان تحسبه لـتـطـور احتماالت عزله، ليصبح أول رئيس للواليات املتحدة يتم عزله من منصبه. وإن له أن يتفادى ذلك بتقديم استقالته، مثل ما فعل الرئيس نيكسون ..1974 أو يبدأ بإجراءات عزله في مجلس الــنــواب وال يـتـم الــعــزل فــي مجلس الــشــيــوخ، كما حدث مع الرئيسني أنــدرو جونسون 1868 والرئيس بيل كلنتون .1998 مهما كـانـت دوافـــع الـرئـيـس تـرمـب لتغيير قــواعــد اللعبة الديموقراطية، فـإن املمارسة الديموقراطية في الواليات املـتـحـدة مــن الــعــراقــة والـتـقـدمـيـة، مــا يــحــول دون التخلي عن قيمة التداول السلمي للسلطة.. واستحضار «عفريت» العنف ليحكم من جديد حركة الـصـراع على السلطة، في واحدة من أعرق ديموقراطيات العالم املعاصرة، وأكثرها استقرارًا.