إدلب.. آخر القالع
لـــم يــبــق مـــن املـــعـــارضـــة الـــســـوريـــة مـــن وزن ســيــاســي حـقـيـقـي، ســـوى فــصــائــل املقاومة املسلحة في إدلب. ولم يبق للنظام السوري، والقوى الدولية املؤيدة له، ليحقق سيطرته الـفـعـلـيـة عـلـى ســوريــة، ســـوى سـيـطـرتـه عـلـى إدلــــب. إدلب بمثابة مـسـرح عمليات املـعـركـة الـفـاصـلـة بــن املعارضة والــنــظــام. اســتــراتــيــجــيــًا: إدلــــب لـيـسـت مـهـمـة للمعارضة الــســوريــة والــنــظــام، بــل ملــصــالــح قــــوى إقـلـيـمـيـة ودولية، شـاركـت وتــشــارك فـي الـحـرب األهـلـيـة الـسـوريـة، املستعرة عـلـى أرض الــشــام لـسـت ســنــوات، وإن اختلفت بينها في حجم رهانها وتورطها في الصراع العنيف هناك. كيان الـدولـة في سـوريـة، يتوقف على ما قد يتطور على جبهة إدلــب. لـن يكون هناك دسـتـور جـديـد.. وال استقرار سـيـاسـي حـقـيـقـي.. وال جــهــود إلعــــادة اإلعـــمـــار، وال حتى اســتــقــرار إقـلـيـمـي، يــقــوم عـلـى مــبــدأ الــحــفــاظ عـلـى وحدة التراب السوري، دون حل حاسم لوضع إدلب. إال أن أطراف الصراع على إدلب، تتفاوت قدراتهم وإراداتهم في خوض مـعـركـة إدلـــب الـفـاصـلـة. بمعايير بــدايــة الــثــورة السورية فبراير ،2012 موازين القوى، السياسية والعسكرية، قد اختلت بن الطرفن. الــنــظــام فــي دمــشــق، إلـــى حـــد بـعـيـد، تــجــاوز أزمـــة مصير بقائه في السلطة، وإن لم يكن بالضرورة عقبة شرعيته السياسية. التدخل الروسي العنيف األرعــن، الـذي تدفعه أحالم روسيا التوسعية في مياه املتوسط الدافئة والصراع األزلي مع الغرب على تخوم األورال الغربية، وراء استمرار بــقــاء الــنــظــام فــي دمــشــق. الــفــرس، أيــضــًا: لــم يـــتـــرددوا في التنفيس عن عقدهم التاريخية والعنصرية واملذهبية، ضد العرب في أرض الشام، وسارعوا إلنقاذ نظام األسد مــن الـسـقـوط، بـالـتـدخـل املـبـاشـر وعــن طـريـق عميلهم في املنطقة (حزب الله). بينما املعارضة السورية، التي اندلعت بفعل ثورة فبراير ،2012 وإن حظيت بتعاطف إقليمي ودولـي سياسي، إال أنها في حقيقة األمر لم تلق دعمًا دوليًا وإقليميًا مؤثرًا، يكسبها رهـــان إســقــاط الـنـظـام. وإن اسـتـطـاعـت املقاومة، طـــــوال هــــذه املـــــدة االســـتـــمـــرار مـــع كـــل األضـــــــداد الدولية واإلقليمية التي واجهتها، الصمود حتى تحصنت في آخر قالعها املنيعة (إدلـب). خطأ املعارضة االستراتيجي القاتل، سماحها باالستقطاب الدولي واإلقليمي، لكن على أسس غير نظامية، بانزالقها في أحضان كيانات مصنفة عامليًا بأنها إرهابية، مثل: تحالف بعض فصائل املقاومة املسلحة مع القاعدة. هذا االختالل االستراتيجي الخطير في ميزان القوى أدى في النهاية، إلى قلب خريطة األوضاع على مسرح العمليات، لصالح الـنـظـام. لقد خـسـرت املـعـارضـة الـسـوريـة التأييد اإلقليمي والدولي، اللذين حظيت بهما في البداية... بل إن األمـر وصـل، كما هو الحال على جبهة إدلـب، إلى البحث عن سبل لتجنيب املدنين ويــالت الـصـدام غير املتكافئ، لصالح استعادة النظام للمدينة، دون أي اعتبار ملـا قد يقود إليه ذلـك من عواقب سياسية وإنسانية وأخالقية، تنال أمن استقرار سورية وأمن املنطقة بأسرها. كل املؤشرات تشير إلى معركة حامية الوطيس للسيطرة عـلـى إدلـــب وريـــف حـلـب الــغــربــي، لـيـس بـعـيـدًا عــن معقل النظام والوجود الروسي القوي في الالذقية.. وإقليميًا، ليس بعيدًا عند نقاط تماس حساسة مـع تركيا، إحدى الــقــوى اإلقـلـيـمـيـة الـفـاعـلـة فــي األزمـــة مــع روســيــا وإيران. ليس هناك من ضمانة أال تنجر تركيا ملعركة إدلــب، مع حرص الجميع على تفادي مثل هذا االحتمال. رغم فشل اجتماع طهران الثالثي بن تركيا وروسيا وإيران.. وبعده فشل الروس في الحصول على تفويض من مجلس األمن لعمليتهم العسكرية الستعادة النظام إلدلب، إال أن هناك توجهًا دوليًا، وإلى حد ما إقليميًا، لضرورة عمل عسكري ضد ما يسمى بالفصائل اإلرهابية في املدينة. األمم املتحدة على لسان مبعوثها األممي تتحدث عن ما بن 10 آالف إلى 50 ألف إرهابي في إدلب! نفس التوجه يسود دوال غربية بزعامة الواليات املتحدة، حتى تركيا، قـبـل اجــتــمــاع طــهــران أعـلـنـت هـيـئـة تـحـريـر الــشــام بأنها: منظمة إرهــابــيــة، وإن كــان املــوقــف الـتـركـي هــذا ضروريا لالشتراك في اجتماع طهران.. وكذا، في ما بعد، إلجهاض التوجه الروسي في مجلس األمن، ولو مؤقتًا. املشكلة أصبحت ليست فـي احتمال حـل عسكري لجبهة إدلـــب، بـل فـي كيفية عمل ذلــك دون اإلضـــرار بأكثر مـن 3 مــاليــن مــدنــي. الــخــطــورة هــنــا: أن الــغــرب أعــطــى الضوء األخضر للعملية العسكرية في إدلب، وكذا األمم املتحدة! رغــم محاذير ذلــك اإلنسانية، وإن اشـتـرطـوا على الروس والــنــظــام واإليـــرانـــيـــن، عـــدم الــلــجــوء الســتــخــدام السالح الكيماوي! بعبارة أخرى: للروس واإليرانين والنظام، أن يصفوا سكان املدينة الذين يشكل املسلحون وعائالتهم نصف سكانها، شرط عدم استخدام السالح الكيماوي! إال أن احتمال انــدالع جبهة إدلــب شــيء.. وسقوط املدينة شــيء آخــر. الـتـاريـخ يقول لنا إن النصر يلوح عند بلوغ الهزيمة منتهاها. السوفييت انتصروا على النازين عند أبـــواب ستالينغراد، الـتـي شــارفــت على االســتــســالم. ومن اعتاب ستالينغراد دخل الروس برلن، وإلى مخبأ هتلر، حيث أحرقت جثته عند مدخله، بعد انتحاره، قبل وصول الروس، بساعات. آخر قالع الشام لن تسقط.. كما يستحيل تجاهل حقائق التاريخ وواقــع الجغرافيا السياسية، لــدور وثقل العرب الـسـنـة عـلـى أرض الـــشـــام... بــل وكــل الــهــالل الخصيب من البصرة حتى اإلسكندرونة.