Okaz

«بحوث» للبيع..!

- * كاتب سعودي

نعم.. هناك «أبحاث علمية» تباع من أطراف تحترف كتابتها، لطرف، أو أطــراف، «تشتريها» وتكتبها باسم املشتري، وتـقـدم على أنها مـن عمل وإنتاج «املشتري». وتنتهي صلة من عملها بمجرد قبضه «ثمن» البحث الـنـقـدي. هــذا املــوضــو­ع ليس جــديــدا. ولكنه تضاعف وتصاعد أخـيـرا، في عاملنا العربي كله. ومـن املـحـزن، واملـؤسـف واملخزي، أن هذه التجارة أصبحت رائجة، بل أكثر رواجـا، حول كثير من الجامعات العربية، وحتى غير العربية، ومن ذلك جامعاتنا، أو بعضها، على األقل. ومعروف أن أهم وظائف وواجبات الجامعة – أي جامعة – هـي: الـتـدريـس، البحث العلمي، خدمة املجتمع. فالبحث العلمي يعتبر واجبا أساسيا من واجبات أي جامعة، وبــدون قيام الجامعة برعاية وتقديم أبحاث مقبولة (مـن قبل أعضاء هيئة التدريس فيها) تكون مخرجاتها ناقصة وقاصرة؛ إذ يعتبر اإلنـتـاج البحثي العلمي عنصرا أساسيا فـي تحديد مكانة الجامعة وقدرها، وترتيبها، بن الجامعات. ومعروف أن البحث العلمي الرصن هو أساس وأصل أي تقدم حضاري يحرزه اإلنسان، ويحققه نتيجة ملا يتعلمه، ويتحصل عليه من علوم ومعارف. ويمكن القول: إن كل ما تحقق لإلنسانية من رفـاه وتقدم، في كل املجاالت، إنما هو ثمرة للبحث العلمي الــبــنــ­اء. فالبحث العلمي الــرصــن هــو والـــد الــحــضــ­ارة البشرية الــشــرعـ­ـي، وأســــاس ازدهـــاره­ـــا ونــمــوهـ­ـا وتــطــوره­ــا. وكـــل البالد املتقدمة تدين فـي تقدمها الهتمامها أوال باألبحاث العلمية، ودعمها الالمحدود لهذه البحوث.

*** وألهمية البحث العلمي، وضرورة التدرب على القيام به، أصبح على كل جامعة «واجب» تدريب طالبها عليه، وإكساب خريجيها مــهــارة عـمـل هــذه الــبــحــ­وث، كــل فــي مــجــال تـخـصـصـه. فالطالب الجامعي الخريج الذي ال يجيد كتابة بحث علمي في مجاله ال يمكن اعتباره جامعيا، طاملا انعدمت فيه هذه القدرة. من هنا، يـحـرص معظم أســاتــذة الـجـامـعـ­ات، فـي كـل مـكـان، على مطالبة طالبهم، خاصة في املواد املتقدمة التي يدرسونها، بكتابة بحث علمي مصغر ‪)Term Paper(‬ وتقديمه كأحد متطلبات اجتياز املـــادة. وغـالـبـا مــا تخصص 10 – 20 درجـــة، مــن درجـــات املادة الـ001، لهذا البحث، بينما تخصص بقية العالمات لالمتحانات املختلفة في ذات املادة.

*** هنا تحصل إشكاليات خطيرة عندنا، وفـي أغلب جامعاتنا، تتمثل في وجــود أشخاص ومكاتب يقومون بعمل أي بحث، ألي طالب، مقابل مبلغ مادي، يتراوح بن 200 – 500 ريال..؟! والعجيب أن معظم هؤالء يتمركزون حول الجامعات، ويزاولون هذه التجارة بشكل شبه علني. وبحجة عمل «نسخ» و«طبع» ملن يرغب، يقومون، أو بعضهم، بكتابة أي بحث، من ألفه ليائه. ما على الطالب إال أن يقدم عنوان البحث وموضوعه وحجمه، ثم يدفع الثمن، ويأتي بعد أيام الستالمه جاهزا (وبمراجعه). يأخذ الطالب الـ«بحث» (الــذي كثيرا ما يكون قد عمل نسخا ولصقا، وتكرر بيعه مــرات، ال يغير في كل مـرة سـوى الغالف واســم الطالب واســم أسـتـاذه) ليسلمه إلـى األسـتـاذ الــذي طلبه، ويقوم األستاذ بإعطائه درجة عليه، بموجب توزيع الدرجات الـ001 املعتمد، إن «صدق» أن الطالب نفسه قد عمله. وكثيرا ما ال يحاول األساتذة التأكد فيما إذا كان الطالب قد عمل البحث بنفسه، أو عمل له. هــــذا يــذكــرنـ­ـي بــبــعــض مـــدرســـ­ي (أو مــــدرســ­ــات) مــــادة التربية الفنية في بعض املدارس املتوسطة، الذين يطلبون من طالبهم رسومات معينة. فتعمل هذه الرسومات لدى رسامن وخطاطن محترفن مقابل أثـمـان معينة، وتكتب عليها أسـمـاء الطالب، كأنهم من عملها، ويعطون عليها درجات..! هنا نالحظ وجود تجاوزات خطيرة لألمانة وألهداف وأصول العلم والتحصيل، إن لم نقل جرما مشهودا. فالطالب قد «خدع» أستاذه، ومن كتب البحث قد أجـرم في حق التعليم، وفي حق الطالب املعني. أما «األستاذ» فإنه لم يقم بواجبه بأمانة عندما لم يكترث بالتأكد من عامل البحث، وأعطى درجة غير مستحقة لطالب غشه، وغش نفسه ومجتمعه. والنتيجة أن تصبح بعض مخرجات التعليم سيئة وضعيفة، ويتخرج شباب ال يعرف ألف باء البحث العلمي.

*** تـفـاقـمـت هـــذه الــظــاهـ­ـرة، رغـــم حـظـرهـا نـظـامـيـا، ووصــلــت منذ زمـن طويل نسبيا، لكتابة الرسائل العلمية للدراسات العليا. فاملاجستير يكلف 10 – 20 ألف ريـال، والدكتوراه بمبلغ أكبر قـلـيـال..! أوشـكـنـا أن نصبح مجتمع شــهــادات، وحــســب. إن هذه الظاهرة تعتبر في حد ذاتها، وفيما ينتج عنها من تداعيات، تــجــاوزا خـطـيـرا يحمل ضـــررا فــادحــا عـلـى الــبــالد والــعــبـ­ـاد، ما لـم يوضع حـد حاسم لها، ويتم تقليصها إلـى أدنــى حـد. ربما يستحيل القضاء عليها تماما، ولكن ال تصعب محاصرتها، وتقليصها. وال شك أن لهذه الظاهرة أسبابا عدة، وأن املسؤولن عن حدوثها هم أيضا عدة أطراف، بدءا من أستاذ املادة، خاصة ذلك الذي يقبل «البحث»، ويعطي مقدمه درجة عليه دون التأكد من أنه هو الذي عمله. أمـــا الــذيــن يــقــومــ­ون بـكـتـابـة وبــيــع هـــذه «الــبــحــ­وث»، فـيـجـب أن يـرغـمـوا، بكل الـوسـائـل املمكنة واملـشـروع­ـة، على الكف عـن هذا التجاوز، ويبحثوا عن سبل أخـرى لالرتزاق املشروع. وأرى أال يكلف أي أسـتـاذ طـالبـه بعمل أبـحـاث إال إن ضمن قيامهم هم (ال غــيــرهــ­م) بــهــا. وفـــي كــل األحـــــو­ال، أعـتـقـد أن الــوقــت قــد حان لتقوم الجهات املعنية في بالدنا، وفي مقدمتها وزارة التعليم والـجـامـع­ـات بــدراســة هــذه الـظـاهـرة البالغة السلبية والضرر، واملسارعة باتخاذ اإلجراء ات الكفيلة بوقفها، حرصا على جودة مخرجات التعليم، والحيلولة دون استمرار العوامل املدمرة، الــتــي تــســهــم فـــي ضــعــف وتـــدنـــ­ي مــســتــو­ى الـتـعـلـي­ـم فـــي بالدنا العزيزة.

 ?? د. صدقة يحيى فاضل * sfadil50@hotmail.com ??
د. صدقة يحيى فاضل * sfadil50@hotmail.com

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia