ناقشني شكرًا
املــســائــل الـصـعـبـة تـصـبـح سـهـلـة مــع الــوقــت إال الـــنـــقـــاش ومـــــــدار الــفــلــك الـــلـــغـــوي فــكــلــمــا تعقد الـحـوارات تصاعدت وتيرة االلتباس، ولنتأمل قليال نقاشاتنا اليومية ولنقف دقيقة صمت على روح التواصل التي انتزعتها التقنية حتى أصبح البلوك ختامية للعديد من الحوارات أو اإلزالــة من القروب، وعندما نقول احتدت وتيرة الـنـقـاش فنحن نعلن حــدوث خلل فـي سـيـاق الـحـديـث مـا بني تنمر لفظي أو ارتفاع لحدة الصوت، ومشكلتنا الدائمة كبشر أنـنـا نـريـد دائــمــا املـشـاركـة فــي االخــتــيــار؛ فاملتحدث عــادة في مجتمعاتنا ال يعطى الفرصة ألن ينهي عبارته دون املقاطعة واملمانعة واملقارعة وكأننا في حالة حرب معه. درجة الصعوبة في النقاشات تعكس مؤشرات مجتمعية أهمها املـرونـة النفسية والــقــدرة على التمدد واالحــتــواء، فالشخص املـسـتـمـع يــقــف بــني مــا يـسـمـع ومـــا يــعــي فــي ذهــنــه، ولألسف نحن ال نستطيع أن نتخلص مـن هـذه املرجعيات والخبرات الذهنية للتعامل مع النصوص بعيدا عن األشخاص، ويندر أن تجد من يتجرد من األنا ليستمع لآلخرين، نعم هناك أنماط وأيديولوجيات مختلفة لكن ألـم يحن الـوقـت كـي نتفق على أهمية تمكني فلسفة الـحـوار ومــراعــاة أســس التفكير النقدي والــــــذوق واإلتــيــكــيــت فـــي مـــدارســـنـــا وجــامــعــاتــنــا واألهــــــم في بيوتنا. أتمنى أن تصلني ولو ملرة أداة دراسـة تعالج فكرة النقاشات وتحلل ميكانيزم النقاش في مجتمعنا، فأنت ترى ما يحدث في وسائل التواصل وتذهل ملاذا عجزت الدراسات والدورات التدريبية في تمهني فكرة النقاش وجعل األفراد يدركون «وزن الكلمة»، ملاذا نحن نعرف وندرك ما نحب من حاجات للتقدير واالحترام ولكن الوقت ذاته نتعامى عن حاجات اآلخرين. ملـاذا يقفز البعض على حياتك الخاصة ليسألك عن رأيـك في زميلك أو جــارك وال يتكلف عناء سـؤالـه؟ وال يتجه ملناقشته والــتــأكــد مــمــا ســمــع، وملـــــاذا يــأخــذ الــبــعــض «اآلراء» وكأنها «حقائق»، وملــاذا يصر البعض على فكرة املسار اآلمـن فيؤثر الصمت على الكالم ويبحث عن العقول األقل مقاومة رغم أن اللذة في االختالف ال تفوت. إن االســتــثــمــار فــي الــعــالقــات االجـتـمـاعـيـة وامـــتـــالك املهارات الـالزمـة وأهمها النقاش ليس مجرد استثمار ســاذج، بل هو رصيد إنساني يضاف لرصيد الحضارة اإلنسانية، وجميعنا شــاهــدنــا كــيــف يــصــل ســـوء الــنــقــاش إلـــى مــراحــل مـتـقـدمـة من االنحطاط عندما يترك املتحدث أفكارك ويتهجم على عرضك وقيمك وراحـتـك، الكثير من الناس أصبحوا يتجنبون طرح أفكارهم خشية هذه الحرب الالأخالقية في ساحات التواصل االجتماعي ما بني تخوين وتشبيح وما بني تشويه للسمعة ومحاربة لكل من هو ناجح تحت ذريعة «االختالف في الرأي ال يفسد للود قضية» ليس املحك الود اآلن فالود إرادة قلبية ليست ملزمة للطرف اآلخـــر، لكن أن يصبح االخــتــالف يفسد الـقـلـب نـفـسـه فــأنــت تـعـلـم أنـــك أمـــام عــقــول تـعـامـت عــن جوهر النقاش لتقفز على مساحتك الخاصة. وهكذا يستمر صراع الكالم الذي بالضرورة يعكس صراعات نفسية وثقافية قــد تـقـود لعنف مـــادي، والــتــي نصفها عادة بــاملــشــادات الـكـالمـيـة الـتـي عـــادة مــا تنتهي بــمــشــادات دامية، وفي العنف واللغة تقول باربرا وتمر إن اللغة واقع اجتماعي ثابت ولهذا يصبح العنف جزءا من الخطاب املجتمعي الذي يؤثر في فهم الذات والسياق وبالتالي تصبح النقاشات الفجة مكونا ضارا وسامًا للشخصيات وقولبتها، لهذا فإن اإلفراط في العنف اللفظي يــوازي اإلفــراط في القوة، ولنا أن نتصور كيف تصل كلماتنا لآلخرين طاملا لـم ننسقها ونهذبها، إن التنظير بالتأكيد أمر مجاني لكن العمل على تفكيك النقاش وإزالــــة الــشــوائــب مــن بنيته يشبه تـمـامـا املــشــي عـلـى الجمر، فأنت لست في مأمن من تحيزك األيديولوجي أو من مطارق املتفرجني.