املرأة والسياسة.. تاريخ وحنكة
مــؤمــنــة بــــدور املـــــرأة الــســيــاســي وحــضــورهــا الــقــوي في كل مشهد حتى وإن تــوارى خلف الـصـورة، فقد مرتني مشاهد خالل مشوار قراءاتي التاريخية، منها ما حضر في رموز كتاب كليلة ودمنة، فقد رأيت إرادة ابن املقفع عن قصد إظهار دور املرأة في السياسة في كتابه كليلة ودمـنـة وربـمـا عـن غير قصد، ولكن بالنتيجة ظهر لنا هذا الدور الذي تقوم به املرأة في مساعدة السلطان على السياسة وحسن تدبيرها وتبصير السلطان بأشياء قد تخفى عليه، أو تغمض في ذهنه، وهذا أمر تنبه إليه ابن املقفع بذكائه قبل غيره من األدباء والفالسفة. فـقـد مــثــل املــــرأة بــدورهــا الـسـيـاسـي خــالل شخصية (أم األسد) التي وقفت مع ابنها لتكشف حقيقة اللعبة التي قــام بها دمنة والـتـي انتهت بمقتل شتربة، ليظهر من خــالل ذلــك مـوقـف أم األســـد أال وهــو ذكـــاء املـــرأة وحسن تـدبـيـرهـا فــي مـواقـفـهـا بــأوقــات املـحـنـة بـمـا ال يــقــوم به عظماء الرجال. وأيضا في املشهد عندما أنب دمنة أحد الجنود وأخرجه من املجلس حزينا قالت له أم األســد: (لقد عجبت منك، أيها املحتال، فـي قلة حيائك، وكـثـرة وقاحتك، وسرعة جوابك ملن كلمك) وبعد أن استرسل بكالمه الفاجر قالت له: (أتظن أيها الغادر املحتال بقولك هذا أنك تخدع امللك، وال يسجنك؟) وفي اليوم التالي للجلسة األولى جاء ت أم األسـد البنها تذكره بوعده بمحاكمة دمنة وتبني أمره وقــالــت لــه: (أتــظــن أيـهـا الــغــادر املـحـتـال بقولك هــذا أنك تخدع امللك، وال يسجنك؟ وقـد قالت العلماء: ال ينبغي لإلنسان أن يتوانى فـي الجد للتقوى؛ بـل ال ينبغي أن يدافع عن ذنب األثيم). وهنا وقفت عند سؤال باإلجابة عليه تعزيزا لدور املرأة الـتـاريـخـي فـي الـسـيـاسـة، والــســؤال هــو: ملــاذا جــاء النمر إلـى أم األســد ليخبرها بما سمعه من الـحـوار الــذي دار بني كليلة ودمنة، ولم ينقله إلى األسـد مباشرة؟ أعتقد أن ابـن املقفع أو بيدبا قد جــاءا بذلك قصدا ليظهرا أن للمرأة دورا في توجيه دفة السياسة بشكل عام، هذا أوال، وثانيا ليبني لنا أن النساء من خواص امللك كزوجته أو أمه قد تكون كلمتها مسموعة أكثر من مستشاري امللك. وقـد قيل: (إن وراء كل عظيم امــرأة) فكم شهد التاريخ للنساء أدوارا عظيمة سجلت في صفحات التاريخ وهي كثيرة، منها دور أم سلمة رضـي الله عنها مع الرسول صلى الله عليه وسلم فـي صلح الحديبية، عندما أمر الصحابة رضي الله تعالى عنهم بالتحلل للعودة إلى املدينة، فتباطأوا، فأحزن ذلـك الرسول صلى الله عليه وسلم، فذهب إليها وشكا إليها أمر الصحابة، فأشارت عليه بالتحلل أمامهم، فيتحللوا مثله، وفعل الرسول صلى الله عليه وسلم ففعلوا مثله. كما ال تفوتني قصة «الحمامة املـطـوقـة» التي أظهرت العنصر النسائي بذكائه وحسن تدبيره وكيف يستطيع فــي األوقـــات العصيبة أن يخلص املجتمع بأكمله من كارثة قد تحل به. فهذه الحمامة املطوقة عندما وقعت هي وصاحباتها في القفص كيف تفتق ذهنها عن خطة للخالص من هذا املأزق وهو أن يتعاون جميعا فيطرن بــالــقــفــص بــعــيــدا، وفـــعـــال، طــــرن بـــه وابــتــعــدن عـــن أعني الصياد، ثم لم تكتف بذلك بل أمرت صاحباتها بالذهاب إلــــى الــعــمــران حــتــى ال يـسـتـطـيـع الــصــيــاد متابعتهن، وفعال كـان رأيها مصيبا وأفلنت من رقابة الصياد، ثم استنجادها بالجرذ لقرض حبائل القفص، واستجاب لها الجرذ، وفي الحكاية داللة على فطنة الحمامة، وهي أن الجرذ بدأ قرض عقدتها هي، فأمرته بأن يبدأ بقطع عقد بقية الحمام وألـحـت عليه الــقــول، وعندما سألها عن سبب إلحاحها بذلك، قالت له إنها تخشى إن قرض عقدتها أوال فقد يصيبه الفتور ويترك باقي الحمام في عقده ويأتي الصياد، أما إذا بدأت بعقد الحمام لم تزل تجهد نفسك لتفك عـقـدي، ألنــك ال تـرضـى بــأن تتركني ولــو أصـابـك الـفـتـور، وهــذا هـو إيـثـار املـــرأة، تؤثر نجاة املجتمع على نجاة نفسها، إنها تضحية القائدة املرأة، واملغامرة بنفسها في سبيل اآلخرين. وال يـغـيـب عــن أذهــانــنــا كـيـف أن شــهــرزاد أنــقــذت بنات جنسها من القتل على يد شهريار في قصة (ألــف ليلة وليلة).