Okaz

املنظومة العرجاء للبحث العلمي الوطني

- * كاتب سعودي

قبل أيام أكد مشرف البحث والتطوير في وزارة الـتـعـلـي­ـم الــدكــتـ­ـور هــشــام الــهــدلـ­ـق، عــلــى أهمية الــشــراك­ــة مــع الـقـطـاع الــخــاص مــن أجــل تحقيق أهــــــدا­ف بـــرنـــا­مـــج دعــــم الــبــحــ­ث والــتــطـ­ـويــر في الجامعات لتكون الشراكة بمثابة مسرعات للنمو االقتصادي، وهو ما يدفعنا لتسليط الضوء على واقع البحث العلمي في اململكة، باعتبار أنه من املفترض أن يكون من املكونات املهمة الداعمة لتحول االقتصاد الوطني من اقتصاد ريعي يعتمد بشكل شبه كلي على مــورد النفط إلــى اقـتـصـاد املـعـرفـة الذي يشكل أحد أعمدة الرؤية السعودية 2030 وأهدافها الرامية إلى تحقيق التنمية املستدامة، فاالقتصاد املعرفي املدعوم بالبحث العلمي واالبتكار هو أحد أبرز عوامل تربع الواليات املتحدة على عـرش االقتصاد العاملي كأكبر وأهــم اقتصاد في العالم منذ العام 1872 وكان عاما أساسيًا في ديمومة هذا التفوق األمريكي، وهو أحد دوافع االهتمام الكبير واملتنامي بالبحث العلمي واالبتكار في الجامعات السعودية، ولكن وبالرغم من انعكاس هــذا التوجه إيجابيًا على ترتيبها فـي التصنيفات الـعـاملـي­ـة، إال أنــه لــم يحقق مــــردودًا ملموسًا عـلـى صعيد دعم االقــتــص­ــاد الــوطــنـ­ـي بـاسـتـثـن­ـاء جـامـعـة املــلــك عـبـدالـلـ­ه للعلوم والتقنية «كاوست» والتي تعتمد مخرجاتها على البحث، وهو ما يفرض علينا تشريح واقع البحث العلمي بدقة وبشفافية. لــقــد ســاهــم الــتــمــ­ويــل الــحــكــ­ومــي لـلـبـحـث الـعـلـمـي فــي تحقيق ارتفاع نسبي في هذا املجال، حيث تشير اإلحصائيات إلى أن السعودية تحتل املرتبة 32 عامليا في حجم اإلنفاق على البحث العلمي والذي تجاوز 8 مليارات دوالر العام املاضي وبنسبة %3.5 من الناتج املحلي، وهو معدل مرتفع جدًا ويضعنا في املـرتـبـة الثالثة عامليًا بعد كــوريــا الجنوبية الـتـي تنفق على البحث العلمي بمعدل %4.3 مـن إجمالي ناتجها املحلي، ثم سنغافورة بـ 4%، بحسب مجلة البحث والتطوير العلمي للعام ‪.)R&D Magazine( 2018‬ ولكن سياسة اإلنفاق على البحث العلمي تعتمد على التمويل الحكومي بنسبة تصل إلى نحو ،%90 وال توجد مصادر تمويل أخـــرى مـسـتـدامـ­ة فــي غـالـبـيـة الــجــامـ­ـعــات، بينما فــي النماذج الغربية املتقدمة آلية التمويل عكسية، حيث تأتي من القطاع الــخــاص بشكل أســاســي، وقــد سـبـق أن أكــد ذلــك مــديــر جامعة امللك سعود الدكتور بدران العمر، خال امللتقى الثالث لكراسي البحث في اململكة ،2014 بـأن «النسبة العظمى من موازنات البحث العلمي في اململكة تمول من الدولة بواقع %85 تقريبًا، في حن أن نسبة التمويل الحكومي في اليابان مثا تقل عن ،%18 وفي كندا ،%30 والواليات املتحدة ،»%35 وهي إشكالية حقيقية ألن التمويل الحكومي عادة غير معني بنتائج كل ورقة بحثية وإنما هدفه تغطية احتياجات الباحثن في الجامعات، بينما الــقــطــ­اع الــخــاص يــمــول األبــحــا­ث بــهــدف الــوصــول إلى نتائج تحقق له منفعة استثمارية. والقطاع الخاص في اململكة ال يدعم البحث العلمي إال في إطار محدود ومـن منطلق «خدمة املجتمع» وليس بهدف الشراكة االستثماري­ة، فقد كشفت دراســة أجرتها وكالة وزارة التعليم العالي سابقًا للتخطيط واملعلومات في 2014 بعنوان: «واقع اإلنــفــا­ق عـلـى الـبـحـث الـعـلـمـي والــتــطـ­ـويــر فــي الــســعــ­وديــة»، أن إجمالي ما رصد من إنفاق الشركات واملؤسسات املحلية على البحث العلمي لم يتجاوز 3 ماين ريال خال ذلك العام، أما في وقتنا الراهن، ال توجد سوى شركتن في القطاع الخاص لديهما اهتمام ملموس بتقديم دعم فعلي للبحث العلمي وهما «سابك وأرامكو»، وذلك بحسب نتائج مؤشر «نيتشر» .2018 وبـالـرغـم مــن أن نسبة كبيرة مــن الـقـطـاع الــخــاص غير مؤهل لاستثمار في البحث العلمي، حيث إن نحو %35 من منشآت القطاع غـارقـة فـي «األمــيــة التقنية» وال تستخدم التقنية في معاماتها، وفقًا ملسح أجـرتـه الهيئة العامة لإلحصاء العام املـــاضــ­ـي، إال أنــنــا ال يــجــب أن نــضــع عـلـيـه الـــلـــو­م، ألن غالبية جامعاتنا لم تقدم أبحاثًا تحفز القطاع الخاص للدخول في شراكات استثمارية كما يجري في الغرب، والسبب يعود إلى أن هذه الجامعات كانت تتسابق خال العقد املاضي للوصول إلى مراكز متقدمة في سالم التصنيف العاملية كهدف أساسي من النشر العلمي، واندفعت بعضها منذ 2008 بشكل خاطئ لتحقيق مكاسب علمية سريعة، بعد أن وقعت عقودا كلفتها ماين الـــدوالر­ات لكسب جهود الباحثن األجـانـب املتميزين حــــول الـــعـــا­لـــم الـــذيـــ­ن نـــشـــرو­ا أبـــحـــا­ثـــا ذات اســتــشــ­هــاد مرتفع ‪)Highly Cited(‬ لتسجيل أسماء جامعاتنا ضمن منشوراتهم العلمية كانتماء ثانوي ‪)Secondary Affiliatio­n(‬ دون أن تكون لجامعاتنا أي جهد يذكر في هذه األبحاث أو حتى االستفادة مـن نتائجها، إذ كـانـت الـغـايـة هـي ارتــقــاء مـراتـب متقدمة في تصنيفات شنغهاي والتايمز وكـواكـيـر­لـي سيموندس )QS( لتحسن صورتها أمام الرأي العام واملسؤولن، وحققت بالفعل قــفــزات هـائـلـة عـلـى صعيد املــؤشــر­ات واملـقـايـ­يـس املتخصصة فـي البحث العلمي، حيث احتلت اململكة فـي مؤشر «نيتشر» املرتبة 28 عامليًا واألولــى عربيا للعام ،2017 وهـو من أقوى التصنيفات العلمية، واحتلت اململكة أيضا املرتبة 32 عامليًا في معدل ومستوى النشر العلمي وفقًا لتصنيف «سكيماغو» )SJR( للعام املاضي من بن 239 دولة، واألولى عربيا وفقًا لذات التصنيف الــذي يقيم ما ينشر في قاعدة بيانات «سكوبس» األملانية التي تحتوي على نحو 20 ألف دورية وتعد من أبرز قواعد البيانات بجانب الدوريات املنشورة في ISI والتي أيضًا حصلنا فيها على نتائج متميزة. هــــذه الــنــتــ­ائــج تــبــدو إيــجــابـ­ـيــة فـــي ظــاهــرهـ­ـا، ولــكــن الحقيقة كالشيطان الــذي يكمن في التفاصيل، فالجامعات السعودية التي سعت إلى استنساخ ومحاكاة النماذج الغربية املتطورة في البحث العلمي، لم تقدم منظومة محوكمة وفاعلة تحقق مــردودًا ملموسًا علميًا واقتصاديًا، وكانت مشاركة الباحثن السعودين محدودة وهو عامل مهم، وهذا ما أكده تقرير صدر في 2012 عن مؤسسة «طومسون رويترز» الرائدة في البحث العلمي، وجاء فيه أن البحث واالبتكار ينموان بسرعة هائلة في السعودية ولكن نسبة السعودين املشاركن في البحث العلمي محدودة، إذ كانت ال تتجاوز %10 في ،2003 ومن ثم ارتفعت لتصل إلــى %35 فـي ،2011 وهــي أيـضـًا نسبة ضئيلة وظلت كذلك، فبالرغم من أن كبرى جامعاتنا تلتزم بمعايير نشر في دوريات ذات معامل تأثير مرتفعة إال أن غالبيتها مشتركة مع باحثن أجانب ومحتواها محدود الفائدة في الشأن الوطني. وما لن نجده حاليًا من نماذج منشودة في البحث العلمي، هو أن يصل باحث ما -على سبيل املثال- إلى تطوير لقاحات ملرض مـا ومــن ثـم يـجـري عليها تـجـارب سريرية ويحصل بها على براءة اختراع ومن ثم تتهافت عليه الشركات لتطوير ما توصل إلـيـه وتحويله إلــى منتج يـخـدم البشرية ويـبـاع فـي األسواق ليجلب لــه ولجامعته ولـاقـتـصـ­اد الـوطـنـي مـايـن الرياالت، الــواقــع يـؤكـد أنـنـا مـا زلـنـا بعيدين عـن تحقيق ذلــك مـن حيث «الكيف والكم والنوع». هذا الخلل هو نتيجة ملنظومة البحث العلمي الوطني املتشظية وغــيــر الــفــاعـ­ـلــة، والــتــي أصــبــحــ­ت مــصــدرًا لــلــهــد­ر االقتصادي وتسير بـاتـجـاه معاكس لــرؤيــة ..2030 والـحـلـول تختزل في سياسات الجامعات تجاه البحث العلمي، في رؤيتها وأهدافها وضوابطها وكيفية توظيف العقول والكوادر العلمية لتحقيق غايات سليمة.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia