ذكرى وحرب وكراهية!

في قلب العاصمة الفرنسية باريس التقى 70 زعيما عامليا باألمس ليحتفلوا بـمـرور 100 عـام بالتمام والكمال على نهاية الحرب العاملية األولـى. وهي الحرب التي شهدت اقتتاال مرعبا ومخيفا وتقسيما مرعبا في جغرافية البلدان. وكـم هو مشهد حضاري وراق كان الحضور املهيب لقادة دول كانت تتقاتل وتقتل بعضها البعض وتفجر بعضها البعض، ولكن الحضارة والتمدن ترفعا عن الكراهية والــدمــاء. ولعل أبــرز ما جـاء في الكلمة االفتتاحية للرئيس الفرنسي مـاكـرون التي ألقاها فـي هـذه املناسبة املهمة والتاريخية حني فـرق بني الوطنية والتعصب القومي، فاعتبر األولى ميزة واعتبر الثانية خطرا عظيما. وفي لفتة رمزية بالغة الداللة واألهمية قدم ماكرون للعالم الوجه التعددي لثقافة فرنسا التي رآهــا العالم فـي منتخبها لكرة الـقـدم، الفائز بكأس العالم األخير واملشكل من ثقافات وخلفيات ثرية متنوعة، قدم فنانان مـن أصــول آسيوية ومــن أصــول أفريقية ليفتتحا املناسبة أمام العالم. هــذه الرسالة األهــم التي قدمت للعالم فـي هــذه املناسبة الـتـاريـخـيـة؛ أنــه ال مـكـان للخطاب اإلقـصـائـي وأن الـتـعـدديـة هي األســـــاس، وأن خــطــاب الــكــراهــيــة ســيــحــارب بــكــل قــــوة، فــال مكان لـإلرهـاب باسم الدين وال مكان للعنصرية باسم القومية. تدين يولد إرهابا ووطنية تولد عنصرية لن يسمح املجتمع اإلنساني بــهــمــا؛ ألن ذلــــك يــخــالــف الــقــيــم والــحــقــوق والــفــطــرة اإلنسانية. وبطبيعة الـحـال هــذا الخطاب ليس حصريا موجها مـن الغرب إلى الغرب ولكن خطاب يعني كافة سكان هذا الكوكب ألنها قيم تجمع عليها كافة األديان وكافة املجتمعات السوية، ومن يشذ عن ذلك فهو يشذ عن مسألة فطرية ويقتضي محاربته. املجتمعات التي تختار الخطابات االقتصائية بالدين أو بالقوميات سرعان ما تتوحش وتصبح جاهزة للعدوانية لتأكل بعضها بعضا أو ضد الغير، والتاريخ يظهر لنا األمثلة العديدة واملتنوعة التي تؤكد ذلك وتبني أن هذه «االختيارات» هي نوع من أنواع االنتحار السياسي واالجتماعي الفتاك واملدمر. التاريخ خير معلم وأهم مـدرسـة وتبقى باستمرار تـحـدي االسـتـفـادة مـن دروســـه وعبره. ولعل مشاهد االحتفالية الحضارية التي شهدها العالم أمس في باريس، يأتي من باب التذكير املهم جدا، أن الكراهية هي أساس كل الشرور وأن اإلحساس بالتميز واألفضلية يولد فوقية مضللة تـعـمـي الـبـصـيـرة وتـشـعـل نــيــران الــحــرب والـــدمـــار الــتــي ال تبقي األخضر واليابس. الشعوب السوية هي التي تترفع عن الفروقات وتشعر بقيمة االنتماء لوطن جامع ال بالنظر املـريـض الضيق على صغار األمور التي تجمع وهي في الواقع ما هي إال خطوط فـراق وتمزيق. فرق شاسع بني من يصنع أوطانا تتسع للجميع وبـني من يزكي كيانات فرعية تغذي الكراهية. 100 عـام مضت على أول حرب عاملية أطلقت بسبب روح الكراهية التي زرعت. لم تنته الحرب وال تزال مستمرة إال أن العالم بات يفكر مرات كثيرة قبل اإلقــدام على مغامرة جديدة أخـرى وأصبحت الكراهية بكل أشكالها أعتى األعداء.