Okaz

لندن مدينة الضباب السياسي

-

لندن مصدر شرور العالم، هكذا وصفها القائد التاريخي الفرنسي نابليون، في فترة حروبه مع بريطانيا العظمى، فهي املتحكم بسياسة العالم حينها، وكـل ما جـرى من مـعـارك تطهير ديني وعـرقـي فـي أوروبـــا، ونكبات وحــروب في جميع أرجــاء املعمورة، كان بسبب ما يحاك فيها من مؤامرات، على حد تصوره. وبطبيعة الحال، ال يمكننا الركون إلى رأي نابليون بلندن، التي قصمت ظهره في معركة واترلو، فهو نــد لـبـريـطـا­نـيـا مــن جــهــة، إضــافــة إلـــى أن نابليون نفسه ال يقل شرا عن أقرانه من القادة اإلنجليز، من جهة أخــرى. إال أنه يمكن األخـذ بهذا الــرأي، إذا ما نظرنا ودققنا في السياسة اإلنجليزية في العالم، ومـــدى مــا أحـدثـتـه مــن تغييرات سلبية فــي الدول التي كانت تـرزح تحت نيرها، والـحـوادث الكثيرة التي أنتجت أوضاعا تتماشى ومصالح اإلنجليز فــي الــعــالـ­ـم، وصــلــت مـعـهـا إلـــى مــســتــو­ى الحروب واإلبادات الجماعية، تحقيقا ملصلحة مادية ضيقة. فـقـد تــضــرب مـديـنـة بــاملــدا­فــع إذا مــا أعــاقــت دخول بــواخــر إنجليزية لنقل الـبـضـائـ­ع، بــل وفــي خضم الحرب العاملية الثانية، وقوة األملان التي كانت قاب قوسني أو أدنــى من تدمير لندن بشكل كامل، كان القادة اإلنجليز يفكرون بقصف موسكو، استغالال النشغال األخيرة بحربها ضد األملـان، فهي فرصة مـن الصعب تـكـرارهـا، وإن جــاءت فـي غير وقتها، فاألملان يمكن أن يكونوا أصدقاء إلنجلترا، لكن ذلك بعيدا عن الروس. ومــا الـحـرب األهـلـيـة األمـريـكـ­يـة إال صــراع مصالح إنــجــلــ­يــزيــة لـلـهـيـمـ­نـة بــشــكــل تــــام عــلــى االقتصاد األمريكي، لذا ترى أن الواليات املتحدة جاهدت من أجل الخروج من عباءة املحتل البريطاني لها، لكن هل ابتعدت عن تأثيرها؟ وطـبـيـعـي أن يــكــون لــلــمــو­اطــنـني اإلنــجــل­ــيــز شعور بالتميز عــن غـيـرهـم مــن مـواطـنـي الـــدول األخرى، نظرا ملا يمتلكه قادتهم من عقلية دانـت لها أغلب شعوب الـعـالـم، على الـرغـم مـن أن التفوق جــاء عن طريق االستخدام األمثل للمال، أو بعبارة أدق توفير البيئة املالئمة للمال، من أجل االستقرار في لندن، والعمل على تمدده إلى باقي الدول، األمر الذي دفع برجال األعـمـال الكبار إلـى أن يكونوا بريطانيني، ومؤسسني ألندية تجمعهم مع أمثالهم من أباطرة املــال فــي الـعـالـم، تـقـوم بـوضـع األطــر االقتصادية، الــتــي تــؤســس عليها الـسـيـاسـ­ة الــدولــي­ــة. فـهـم وإن أعطوا للواليات املتحدة استقاللها، إال أنهم كبلوها بمؤسسة تسمى البنك الفيدرالي األمريكي، الخارج عن جميع سلطات الـواليـات املتحدة، والــذي يتبع أبــاطــرة املـــال اإلنـجـلـي­ـز، حـيـث يـقـوم بطبع العملة الـتـي تـعـد مـحـرك االقــتــص­ــاد الــعــامل­ــي، بــل ويــكــاد ال يخلو منزل في العالم منها. وهـــذا املـنـتـج الـتـاريـخ­ـي لـأرسـتـقـ­راطـيـة والجذور الــعــمــ­يــقــة لــإمــبــ­راطــوريــ­ة الــتــي ال تــغــيــب الشمس عــن مستعمراتها «ســابــقــ­ا»، أو «ألبــي نــاجــي» كما يسمونه الــبــغــ­داديــون، يصعب عـلـى البريطانين­ي الـتـخـلـي عـنـه أو رمــيــه خـلـف ظــهــورهـ­ـم، لــكــن، وفي ظل صراع العوملة، القائم على سباق الزمن، فإن كل قـديـم، مهما بلغ مـن األصــالــ­ة والـثـبـات، ســوف يتم سحقه، إذا لــم يتماش مــع الــزمــن الـسـريـع، ويركب قطار العوملة. والصعود في قاطرة االتحاد األوروبي، يعني إن لم يكن الجلوس خلف أملانيا، فسيكون بجانبها، وهو أمر غير مستساغ للندن، فإن خسرت قيادة العالم، ال يعني بذلك أنها خسرت قيادة نفسها حتى. وهذا املــوضــو­ع ال يفهمه جميع سـكـان اململكة املتحدة، خصوصًا وأن األجيال الشابة تربت وترعرعت على مفاهيم العوملة وقـبـول اآلخـريـن، بغض النظر عن القومية واللغة والدين. فمفهوم اإلنسانية تجذر في املجتمع، وابتعد عن مبدأ الشعور بالتفوق، الذي ما زال يهيمن على بعض العقول الكالسيكية، وهذا األمــر سيكون مشكلة القيادة اإلنجليزية القادمة، ناهيك عن ردة الفعل من قبل دول اململكة، إزاء عنصر التفوق لدى الساسة اإلنجليز، في تعاملهم مع دول مثل اسكتلندا وويلز وأيرلندا الشمالية، وهي دول ترى أنها جزء من املنظومة األوروبية، إضافة إلى املشاكل التاريخية بينها وبني الدولة األم إنجلترا، مما يضع االتحاد امللكي على املحك، بني االستمرار تحت التاج امللكي أو التفكك وضياع هوية اململكة، كإرث ديمقراطي جاء للسلطة دون ثورات وانقالبات كما حصل في غيرها من الدول األوروبية. وإذا كــــانـــ­ـت مــصــلــح­ــة املـــمـــ­لـــكـــة املـــتـــ­حـــدة تقضي بانسحابها من االتحاد األوروبي وعدم خضوعها لقوانني االتحاد، مثلها مثل رومانيا أو ليتوانيا، فـإن هـذه املصلحة تتناغم والتوجهات األمريكية الرامية إلــى تطويق االتـحـاد األوروبـــ­ي والـحـد من نفوذه االقتصادي، وقد تكون الواليات املتحدة هي من أقنع الجهات املؤثرة داخل بريطانيا بضرورة االنــســح­ــاب. إال أن الـخـطـورة أيـضـًا تكمن بعواقب هـذا االنسحاب، الــذي قد يجر اململكة املتحدة إلى الــدخــول فــي نـفـقـات اقـتـصـادي­ـة بـاهـظـة، كـجـزء من الـتـزامـا­تـهـا تــجــاه االتــحــا­د األوروبـــ­ــي، إضــافــة إلى الـــدخـــ­ول بـمـنـافـس­ـة دول االتـــحــ­ـاد مـجـتـمـعـ­ة، األمر الـــذي سيضعف االتــحــا­ديــن مــعــا، ســـواء األوروبي أو امللكي البريطاني، وبكل األحــوال، فإن املستفيد من ذلك هي واشنطن، التي قد تفكر األخـذ بثأرها من بريطانيا، بسبب مواقف األخيرة تاريخيا من الواليات املتحدة. حيث يحكى أن فرنسا وبريطانيا أرادتـــــ­ــا فـــي يــــوم مــــا، تــقــســي­ــم أمــريــكـ­ـا إلــــى واليــــات مستقلة الــواحــد­ة عــن األخــــرى، وذلـــك إبـــان الحرب األهلية األمريكية العام ،1861 لوال تدخل األسطول الـــروســ­ـي حــيــنــذ­اك، والــــذي أجــبــر هــاتــني الدولتني األوروبـيـ­تـني على تغيير موقفهما. فهل احتفظت ذاكرة العم سام بذلك.

* ينشر هذا املقال بالتزامن مع «سبوتنيك عربي»

 ??  ?? أنصار المرشح الرئاسي في مدغشقر يهتفون خالل تجمع حاشد في مدينة أنتاناناري­فو بمدغشقر، قبل جولة اإلعادة لالنتخابات الرئاسية (أ.ف.ب)
أنصار المرشح الرئاسي في مدغشقر يهتفون خالل تجمع حاشد في مدينة أنتاناناري­فو بمدغشقر، قبل جولة اإلعادة لالنتخابات الرئاسية (أ.ف.ب)

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia