Okaz

التفكير الناقد في التعليم السعودي مادة أم منهج

-

يحرز كثير من الطالب والطالبات في السعودية مـــراكـــ­ز مــتــقــد­مــة جـــــدا فـــي مــخــتــل­ــف املسابقات ولـــقـــا­ءات األوملـــب­ـــيـــاد الــعــامل­ــيــة فـــي الرياضيات والفيزياء والعلوم، والكثير منهم يدرسون في مدارس عادية على مستوى التجهيزات والتقنيات ولكن باملقابل ال نشهد كـثـيـرا مــن تـلـك الـنـجـاحـ­ات فــي الـعـلـوم اإلنـسـانـ­يـة وال نعرف نماذج قدمت رؤى جديدة في الفلسفة والفكر واللغة والفقه وغـيـرهـا مــن الـعـلـوم ويـمـتـد ذلــك مــن مـــدارس التعليم العام وصوال إلى الجامعات. كان الحدث األبرز القادم من وزارة التعليم ومنذ أعوام ليس خـاصـا باملباني وال بالتجهيزات التعليمية الحديثة فكل هذه العوامل رغم أهميتها ال ترتبط بلب العملية التعليمية، لكن الحدث األبرز تمثل في إعالن الوزارة إدراج مادة مهارات التفكير الناقد والفلسفة ومادة القانون ضمن مناهج املرحلة الثانوية. في الواقع أن هذا يمثل تحوال مهما في فكرة التعليم السعودي نفسه ما هو وما الغرض وما الطالب الذي نريد، وبالنظر إلى املخرجات التعليمية السعودية على مــدى األعـــوام املاضية سـنـدرك أن ثمة قـصـورا فـي الـوعـي واملعرفة والتفكير وهذه كلها مهارات أصيبت بنوع من التخثر جـراء هيمنة الرؤية الــواحــد­ة على مختلف العلوم اإلنسانية وبـأسـلـوب تلقيني واحـــد وجــامــد. وربــمــا ال تـكـون هــذه مشكلة فــي التعليم في السعودية فقط بـل هـي مـن وجهة نظري مشكلة فـي الثقافة العربية بأكملها، وبما أننا نتحرك اليوم وفـق رؤيــة واعية ومستقبلية لتجاوز السائد والنمطي فلن ننتظر حتى يصلح حـــال الـثـقـافـ­ة الـعـربـيـ­ة بــل ســنــبــا­در لـبـنـاء الــنــمــ­وذج الخاص الـجـديـد فــي التعليم بصفته الــركــن األبـــرز فــي كــل معادالت التنمية الوطنية. مهارات التفكير الناقد يجب أن تكون املادة املهيمنة على كل العلوم اإلنسانية، بل يجب أن تمثل ملحقا في كل مواد اللغة واألدب والفقه والعقائد وحتى في مادة الفلسفة الجديدة. إن غــيــاب هــاجــس التفكير والــســؤا­ل الـنـاقـد جــاء أســاســا من الـنـظـرة املحافظة إلــى تلك الـعـلـوم بصفتها علوما كاملة ال تقبل النقد وال السؤال وال يجب التعامل معها إال بالتسليم املطلق وعـبـر مــهــارات تعليمية بدائية ال تـخـرج عـن الحفظ والتلقني. وهكذا أصبحت املعاني واألفكار والطرق التعليمية لتلك املــواد تــؤدي إلــى بناء ذهنية تؤمن بالثبات وأحادية املصدر املعرفي وتتصف بالجمود والتسليم املطلق وتعيش في قالب واحد، وأخطر ما يتعرض ذلك الطالب الذي يخرج مــن ذلـــك التعليم أنـــه يـقـع فــي حــالــة فــصــام بــني مــا هــو قائم وممارس في حياته العامة وبني ما يتعلمه في املدرسة. على سبيل املثال: يتخرج كل الطالب والطالبات في الثانوية العامة وفي أذهانهم حكم واحد فيما يتعلق باملوسيقى؛ حرام فقط. حكم واحد وبأدلة وآراء ومرويات تاريخية مبعثرة، لكن الطالب في حياته غالبا ال يلتزم بذلك التحريم وهــذه أبرز لحظات التناقض بني ما يتعلمه وبني ما يعيشه، مما يجعله يستمر في حياته الطبيعية التي تحيط بها املوسيقى من كل اتجاه وهذا الحكم املدوي الثابت في رأسه، وعلى هذا املثال يمكن بناء نماذج كثيرة مشكلتها الحضارية الكبرى تتمثل في بناء فرد يعيش سلوكا مختلفا عن أفكاره التي يحملها وذلك لسبب يسير أنه يتعلم وفق منطق ثابت صارم ال يقبل السؤال وال االعتراض. ترى هل تتخيل أن معلم مادة الفقه يمكن أن يفتح نقاشا بينه وبني الطالب عن مدى صواب ذلك الحكم أو عن أحكام أخرى؟ ربما يحدث هذا إذا تم بناء وتقديم مادة التفكير الناقد بناء حقيقيا ولم يتم تعديلها عن مسارها. مـــادة الــقــانـ­ـون ال تـقـل أهـمـيـة عــن التفكير الـنـاقـد خـاصـة إذا انطلقت مـن القيم الكبرى للقانون بصفته منظما وحاميا لحياة الناس وحرياتهم بغض النظر عن تنوعهم واختالف أفكارهم وتوجهاتهم، وأن حياة الناس في املجتمعات املدنية ال يمكن إدارتــهــ­ا مـن خــالل معادلة الـحـرام والـحـالل الفقهية ألنــهــا مـتـنـوعـة ومــتــعــ­ددة، بــل مــن خـــالل مــعــادلـ­ـة القانوني وغير القانوني ألنـه يستوعب ذلـك االخـتـالف ويهيمن عليه بـاألنـظـم­ـة والـتـشـري­ـعـات، فـالـقـانـ­ون مـثـال يـوجـب عـلـى الذين يقودون سياراتهم التوقف عند إشــارة املــرور الحمراء سواء للسائقني الـذاهـبـن­ي إلــى املـسـاجـد أو الـذاهـبـن­ي إلــى شؤونهم الــخــاصـ­ـة، وصــــوال إلـــى الـقـيـمـة الــكــبــ­رى الــتــي تـتـمـثـل فــي أن الحياة في جانبها التفاعلي بني البشر تدار من خالل القانون ال من خالل اآلراء املتنوعة الخاصة. ومع أن هذا أيضا يمثل إشكالية فـي الثقافة العربية إال أننا أيضا لـن ننتظر حتى يصلح حالها بل سنبني نموذجنا الخاص أيضا.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia