Okaz

أحمد زين

كاتب مييت الواقع في حرب حتت اجللد

- قراءة: علي بن محمد الرباعي

أذكر أن أحد الكتاب املخضرمني قال لي «إذا أردت أن تميت شيئًا أو شخصًا في داخلك فاكتبه»، ربما كان محقًا، إال أن الكتابة أيـضـًا إحــيــاء، إمــا لـذكـرى مـا أو لتاريخ أو لواقعة. وبعض الـكـتـاب يقع فـي ورطــة مـع املحاكمات االجتماعية بسبب ما يكتب من مـوروث خصوصًا القصائد واألهازيج واألمثال امللغومة التي يتعاطى معها الكاتب على ظاهرها وبحسن نية دون وعي بحموالتها وخلفياتها التاريخية. عندما انتهيت من قراءة رواية (حرب تحت الجلد) للروائي اليمني أحمد زين تذكرت على الفور نظرية (جان بود ريار) عن مـوت الـواقـع، والنظرية معرفية وقابلة للتحقق بحكم أن لكل واقع أركانا ومبادئ ونظريات تتمثل في الجغرافيا والتاريخ والنفس واملجتمع والحياة، فكما كان قيام جدار بـرلـني شــاهــدًا عـلـى حقبة املعسكرين شـبـه املـتـكـاف­ـئـني، فإن انهياره دل على انتصار القطب الـواحـد، وكذلك الحال مع األفــكــا­ر واأليـديـو­لـوجـيـات الـتـي تـمـوت أو تتحلل أو تنحل فيذوي وينهار كل ما انبنى عليها ليحل محلها غيرها. ربـمـا كـانـت املجتمعات الـغـربـيـ­ة واملــعــا­صــرة تـحـديـدًا أكثر اسـتـجـابـ­ة لـلـتـحـوا­لت بحكم انــعــدام الــتــفــ­اوت بــني النظرية والتطبيق، وبني األفكار واملمارسة الحياتية اليومية، إال أن املـواطـن العربي لم يقف منذ عقود على أرض صلبة، وكل حقبة تسلمه ملا بعدها إثر فاجعة أو نكبة أو نكسة يدفع ثمنها من يـرون أن الحياة لونان فقط (يا أبيض، يا أسود). بــالــعــ­ودة إلـــى روايــــــ­ات زيـــن (تــصــحــي­ــح وضع) و(قهوة أمريكية) وقبلها مجاميعه القصصية (أســـــاك تـصـطـخـب) و(كــمــن يــهــش ظـــا) نجده مسكونًا باالنتصار لقيم الخير والحب والحرية والــجــمـ­ـال، وإن لــم تبح أعـمـالـه الــروائــ­يــة بكل ما يجول فـي صــدور األبـطـال مـن نقد للواقع ونقمة عليه حــد الــتــطــ­اول عـلـى صـــورة زعـيـم معلقة على جـــدار الـغـرفـة. عـبـر زيــن عــن ثيمة الــخــوف املـسـكـون بها أي كائن معرفي عربي منتم للقيم واملبادئ واملثل، في ظل ما يـرصـده مـن تناقضات ومـابـسـات الــواقــع الــذي ال وجــه له، فيغدو التحدي الكبير في كيفية احتفاظ النخبوي بكامل قواه وهو يداري ما ال يمكن مداراته على مستوى املتخيل، ما يدفعه إن استطاع لانتقام منه كتابيًا عبر الرمزية التي تدفع أبطال العمل السردي إلى التخفف من األثقال ليمكن عـبـور الجسر بـأقـل الخسائر املمكنة. بـقـدر مــا تجتهد في تـلـمـس فــضــاء املــكــان والـــزمــ­ـان فــي أعــمــال أحمد زين، بقدر ما تفشل وتكتفي بالتخمني فالكتابة هنا ليست مكاشفة صريحة وال أدب اعتراف بل إجــاء الغموض واللبس عـن وجــه إنـسـان شغوف بحياة جميلة ومنصفة كتلك التي وردت في الكتب، ما يجعل من املكان فضاء مائعًا أو مطاطيًا قابا للتطبيق على أي جغرافيا تمتد من املاء إلى املاء، فيما يمكن أن يتقلص الزمن السردي إلى سهرة حـــواريــ­ـة قــضــاهــ­ا الــشــخــ­وص فــي مـقـهـى عربي، وتــتــقــ­اســم األشـــيــ­ـاء واألشــــخ­ــــاص دور البطولة. تتسم أعــمــال زيــن الــروائــ­يــة بـحـالـة فـنـيـة شفيفة هــي حالة الذات الكاتبة، واملتجلية في شخصه قبل نصه، وعبر إجادة تقنياته السردية التراجيدية يدفعك للتخلص السريع من مشهد ما أو حالة بحكم أن إنسان املشهد عجز عن التمييز بني النقي وامللوث، حسيًا ومعنويًا، حد تساوي األشياء في نظره. يتجه البطل في حرب تحت الجلد إلى محاولة فهم الواقع، بل ويجتهد في التصالح معه، حتى يستنفد الطاقة املتوفرة فــي الــــروح، وحــني يـقـنـط، وينكشف زيــف الــشــعــ­ارات ودجل املـعـايـي­ـر ووهـــن الــوعــود يـبـدأ االنــتــق­ــام مــن الــواقــع بإماتته وجدانيًا ثم كتابيًا على أمل والدة جديدة. الـكـاتـب املـغـتـرب عمليًا يعيش ثنائيات، وكلما انتقل إلى ضـفـة، نجح فــي رؤيـــة الــواقــع بــوضــوح، وإذا كــان البسطاء أوفر حظًا في الحياة بحكم أن طموحهم ال يتجاوز تحصيل قوت اليوم فإن النخب تتعرض لهزات عنيفة تدفع للجنون أو االدمـان أو االنتحار بحكم أن أحامها أكبر من إمكانات الواقع. الــروايــ­ة سـيـرة ذاتــيــة ملتبسة إال أنــك ال تستطيع اإلمساك بشخص الكاتب في العمل، وإن نجح في توزيع طموحاته على شخصياته، وتمكن من تنفيس غله من خال تعبيرات رجل الشارع، وبائع البرشومي الذي يقشر للعابرين حبات التني الشوكي ويتمتم بكلمات غير واضحة إال أنها ال تخلو من احتجاج ما. يسافر بنا زين عبر أماكن ومساكن وطرقات ومسالك ومقاه فكأنما نحن جزء من املكان الذي كتبه إال أنه في لحظة ما يتخلى عنا ويتركنا كائنات من ورق تذروها رياح النهايات غير املتوقعة.

 ??  ??
 ??  ??
 ??  ?? أحمد زين
أحمد زين

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia