Okaz

ِحكايُة الجاحﻆ وِحكاياتي

-

ال أخفي عنكم، أحبتي القراء، حقيقة أن رغبتي في عرض كتاب لكم من كتب تراثنا األدبي، على غرار كتاب الجاحﻆ، هذا، أو االستئناس به لتشييد فكرة مقال تنتظرونه مني، إنما هي غالبا ما تنشﺊ لي، مع كل واحد من تلك الكتب، حكاية قراء ة ربما

ِﱡ رويتها لكم مرة، وربما سكت عنها مرات، كما لو أني أستأثر بها لذاتي، ولكن: معاذ الله! كل ما في األمر أني أتخير بعضا منها،

َُ وأحفظه في ملفاتي، عسى أن تتاح لي فرصة نشرها جميعا في كتاب، حول حكاياتي مع الكتب التي قرأتها. وكأني أسمع أحدكم يسأل: وما مناسبة الحديﺚ عن كتاب (الحيوان) للجاحﻆ؟

َِّ الحقيقة أن املناسبة مناسبتان، وأوالهما ِعلة للثانية. أمـا األولــى: فهي تسمية اململكة العربية السعودية، العام ،2024 عـام «اإلبــل»، وذلـك في إطـار االحتفاء باإلبل، وتعزيز حضورها املحلي والدولي، واالعتراف بمكانتها، وقيمتها الثقافية، واملادية. وفي هذا تقول العرب: «الصامت من املال: الذهب والفضة، والناطق من املال: اإلبل»، وهو احتفاء نحن مدعوون جميعا إلى اإلسهام فيه، ضمن رؤية سديدة، تحرص فيها بالدنا على تثمني كل عناصر تراثنا واستثماره، رافدا من رواِفِد مشاريِعنا الثقافي ِة الجديد ِة.

ُُ وكيف لقوم مثلنا أن ينسوا إبلهم؟! تلك التي هي عز ألهلها، والتي تحنو عليهم حنو األمهات، «فﺈذا كانوا نياما فوق

ٍَ ظهورها ال تبرك خوفا عليهم منَ السقوط. ويلتصقون بها عن البرد أثناء نومهم، فتميل بأجسامها عنهم لكيال تزعجهم»، وفقا ملا أورد علي بن محمد الحبرتي، مؤلف «كتاب اإلبل». وأما املناسبة الثانية: فهي نقاش مع أحد األصدقاء، كان قد علق على مقالة لي نشرتها مؤخرا حول صلة العربي باإلبل، واشتقاقه منها كثيرا من ألفاظ لغته، وأشار في أثناء ذلك إلى حكاية أوردها الجاحﻆ في كتاب (الحيوان)، وجاء فيها أنه

‪ُِ َِ‬ ملا أظهر أمامه عبيد الكالبي حبه اإلبل والشغف بها، بادر الجاحﻆ إلى سؤاله: «أبينها وبينكم قرابة؟ قال: نعم، لها فينا خؤولة. إني والله ما أعني البخاتي ]وهي اإلبل غير العربية ذات السنامني[، ولكني أعني العراب التي هي أعرب! ]والعراب هي العربية ذات السنام الواحد[ قلت له: مسخك الله تعالى بعيرا! قال: الله ال يمسﺦ اإلنسان على صورة كريم ]ويعني البعير[، وإنما يمسخه على صورة لئيم، مثل الخنزير، ثم القرد». وال أنسى هنا أن معنى الخؤولة، كما عثرت عليه في بعض معاجمنا، هي مصدر الخال، كما يقول الخليل في (العني).

‪ُّ ْْ ًَ ُُِ َُ‬ والخال أخو األم، ومن معاني الخال أيضا: الفحل األسود من اإلبل، وهذا املعنى، يعزز داللة الخؤولة بني العربي وإبله،

‪َِّ َِ َِّ‬ بقوة منطق اللغ ِة نف ِسها.

َِ لقد وجدت لحكاية الجاحﻆ، التي صاغها بسخريته األدبيِة الناِقدِة، منذ القرن التاسع امليالدي، صدى شبيها ملا يتردد

ُِِ َّْ في ذاتي، من أثر حكايتني جادتني من زمننا هذا؛ األولى، رواها لي األستاذ أحمد العساف، وهو من أبناء العقيالت، فقال: «كـان أبي وجــدي، ما مر بهما بعير وال ناقة، إال استويا واقفني احتراما لﻺبل وتقديرا». والحكاية الثانية، روتها لي

َِ شقيقتي، وفيها أن والدتي، رحمها الله، كانت في آخر حياتها، كلما شاهدت التلفاز يعرض صورة ناقة، هبت إلى الشاشة تقبل فيها تلك الصورة، من فرط محبتها للناقة.

ُْ وبتأثير تلك الحكايات، عدت إلى كتاب (الحيوان) أقرؤه من جديد، باحثا في صفحاته عن ألفاظ اإلبل، وما اتصل بها َِ

َّ َِ من مرويات، ولئن لم أجد في الكتاب بابا مخصصا لﻺبل وعواملها، فﺈن هذا ال يمنع من جمع شتات ما ذكر في شأنها بمتنه وهوامشه، وسأحاول اختصار ذلك في اﻵتي من مقالي، والزيادة عليه من مراجع أخرى، أهمها: (جمهرة األمثال)، ألبي هالل العسكري، وال يفوتني اإلشارة إلى أن محقق (الحيوان)، هو البروفيسور املصري عبدالسالم هارون -1909( ،)1988 أحد أباطرة املحققني العرب، بل أشهر محققي التراث العربي في القرن العشرين، والذي عمل بدأب وإبداع على جل كتب الجاحﻆ، فحققها تحقيقا الفتا، وكساها بحلى تعليقاته، وأخرج كتاب (الحيوان)، في ثمانية مجلدات، و(البيان والتبيني) في أربعة مجلدات، ومثلها (رسائل الجاحﻆ)، واستحق رحمه الله، على جهوده العظيمة، جائزة امللك فيصل العاملية في اللغة العربية واألدب، لعام .1981

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia