«ِخلتني نسيُتها» قصاقص من سالف الزمان!
جمعتني بــاألخ والصديق األسـتـاذ أمــني حسني موسى فترة تزاملنا فيها في املؤسسة العامة للبترول واملعادن (بترومني)، قبل أن تنضم بعملياتها إلــى الشركة السعودية للتكرير والتسويق سـمـارك، حتى صـدور األمـر امللكي الحكيم بضم كافة العمليات البترولية من املنبع إلى املصب إلى شركة أرامكو السعودية لتصبح الشركة العمالقة األكبر عامليًا. عملنا لسنوات طويلة، وأبلينا بـالء حسنًا وشهدنا عصر التحوالت الـبـتـرولـيـة الـضـخـمـة، وأعـطـيـنـا بـكـل محبة وإخـــالص عــصــارة عمرنا لوطن يستحق أجمل التضحيات. أكثر ما لفت اهتمامي في األستاذ أمني، وقرب املسافة بيني وبـيـنـه بــصــورة أفـضـت إلــى صــداقــة وثـيـقـة أعـتـز بها وأفـاخـر، أنـه كـان شغوفًا بـالـقـراءة، نديما للكتاب، سادنا للثقافة، له عامود ثابت في االقتصاد في صحيفة البالد في السبعينيات امليالدية، ال سلوة له في إزجاء وقته الخاص إال باملطالعة، واالســــتــــزادة مــن املــعــرفــة، مــنــوعــًا فــي املشارب مــع وبـــني أمــهــات الــكــتــب، والــصــحــف السيارة، واملجالت، متحريًا اإلصــدارات الحديثة، فأنشأ لنفسه مكتبة كـنـيـزة بالكتب الـقـيـمـة، واملراجع األصلية، واألعــداد القديمة من مشهورات املجالت مثل العربي، وأخبار األدب، واملنهل، وآخر ساعة وروز الـيـوسـف، وصــوت الحجاز ومجلة اإلصـــالح والـتـي كانت تصدر في مكة املكرمة والنداء اإلسالمي والتي كان يرأس تحريرها مصطفى أندرقيري وجريدة األضــواء ومجلة الحج وحـراء وأم القرى وغيرها مما كانت تزخر به مكتبة الثقافة في مكة املكرمة في سوق الليل قبل أن تهل علينا الصحافة اإللكترونية بقضها وقضيضها وتأكل الورقية من دون أن تعرف للعيب محال. كانت قراء ته مستوحاة من وحي أدباء كبار مثل العواد وحسني سرحان وأحـــمـــد الــســبــاعــي وفـــــؤاد شــاكــر وعبدالقدوس األنــصــاري ونـجـيـب مـحـفـوظ والـسـحـار والعقاد وطــه حـسـني ويــوســف الـسـبـاعـي وعـمـالـقـة األدب املـــصـــري، والـــتـــي كــانــت تــمــﻸ املـــالحـــق الثقافية واألدبــيــة الــتــي كــون جيلي ثـقـافـتـه وعـلـومـه من روافدها، بما يمثل مرجعًا تاريخيًا، ومثابة ألي باحث ودارس. ارتبطت في خاطرته بلحظات تجاوزت املعرفة والــثــقــافــة إلـــى تــخــوم الــحــنــني، والـــذكـــريـــات، فكل مــا فــي الـــذاكـــرة مــن أحــــداث وذكريات مـسـيـجـة بـــﺂفـــاق الــحــنــني العذب، الـــــــذي يــســتــمــطــر الــــدمــــع على مــا ذهـــب، ويـتـحـسـر عـلـى ما مــضــى ويــمــﻸ الــرئــتــني من اآلهـــــــــات والـــــــزفـــــــرات التي عــبــرت مـعـه أطــــوار حياته على تقلبها وانتقالها من طور إلى آخر. بــعــد ســـنـــوات الــوظــيــفــة كــــان الــتــقــاعــد مــصــيــر كل مـوظـف، فـأنـاخ راحلته فـي محطته، ليدير بوصلة اتــجــاهــه نــحــو الــكــنــز الـكـبـيـر والــثــمــني الــــذي دأب على جـمـعـه طــــوال الــســنــوات الــســابــقــة، ولـــم يــفــرط فــيــه ليصبح سـلـوتـه، ومبعث متعته وتــأمــلــه، ليعيد الــقــراءة هــذه املـــرة على نحو مـغـايـر، يـقـول فــي مـقـدمـة كـتـابـه الـــذي أهـــدى إلـــي نسخة مـنـه بعنوان «خلتني نسيتها» قصاقﺺ من سالف الزمان ما أحلى الرجوع إليها. يقول: كنت هجرتها زمنًا طويال وكنت أحسبها شاخت وخف بريقها حتى اقتنعت أن أزورها وأعيد معها بعض أيامي الخوالي التي كنت باملسامرة معها ارتاح وأتكﺊ على زندها، فال أعرف أنيسًا غيرها، إنها الــســحــارة صــنــدوق الـكـتـب تــنــام بــني أحضانها مجالت وكتب وأسفار شتى، فالنفس في حاجة إلــى شــيء مــن الــراحــة والــهــدوء، ولـعـل فــي قراءة الكتب والقصﺺ خفيفة الظل مساعدة على خلق جو مريح يروح عن النفس ويزيل عن القلوب ما ران عليها. مضيفًا: ولـقـد اخــتــرت مــن الــســحــارة تـلـك الكتب واملجالت ما أحسب أنه أزاح عني الكثير من سأم الجلوس في البيت، فعسى أن يكون ما اخترته مسليًا للقارئ واملتلقي، ولقد وجدت ضمن مـا وجــدت حكمة مفادها أن الـــرجـــل الــحــكــيــم يــجــب أن يقرأ الكتب العاطفية مرتني، األولـــــــــى فـــــي بــــــدء حياته لــتــعــلــيــمــه كـــيـــف يعيش، والثانية في نهاية حياته لتعليمه كيف كان ينبغي أن يعيش. جمع كتابه بوعي أكبر، وروح عركتها التجارب، ونـفـس تشبعت بمعان جــديــدة، ونــظــرات مختلفة، ولهذا لم تكن عودته للقراء ة كسابقتها، فقد أراد لها أن تكون مثمرة، ويتعدى نفعها نوازع نفسه، إلى من يتوخى فيهم االهتمام املثيل، والرغبة في التأمل مثله، فطفق يستخرج من ثنايا ما جمعه من كتب ومجالت وصحف، طائفة من الحكم واألمثال والحكايات ونوادر األخبار، وطريف القصﺺ، فاتسعت الدائرة، وبلﻎ املستخلﺺ الـــذي جـمـعـه مــا يــؤلــف كـتـابـًا مــاتــعــًا، طــيــه زبـــدة تجربة، وخــالصــة مـعـرفـة، وصــفــو ســاعــات بــني الــســطــور. واألجــمــل أنــه أعطى لشريكة عمره السيدة نوال أحمد قدس فضيلة املشاركة في اختياراته
اﻟرﺟﻞ اﻟﺤكﻴﻢ ﻳﺠﺐ أن ﻳﻘرأ اﻟكﺘﺐ اﻟﻌاﻃﻔﻴﺔ مرﺗﻴﻦ
اﻟﺤﻴاة حكاﻳﺔ وكﻞ ﺷﺨﺺ ﻇﻞ ﻟﺤكاﻳﺔ ﻟﻬا ﺑﺪاﻳﺔ وﻟﻬا مﺘﻦ وﻧﻬاﻳﺔ
ومراجعتها وتدقيقها في حركة ذكية تديم األلفة وترطب العشرة. ليطمﺌن بتضافر الـرؤى، واتساق املفاهيم، واالستﺌناس برؤية أخرى تضيف جديدًا، وتنير بارقة. أسدى صديقي أمني موسى للثقافة بهذا الصنيع املثابر، واملثمر خدمة كبيرة، أوفى بها دين عليه بمزواج فعل القراء ة مع الكتابة ليكمل شوط املثاقفة. كما أنه شأن قليل من األدباء والكتاب قد عبر «القراءة الصامتة»، إلى املشاركة الجاهرة عبر إشراك القارئ في محصلة ما انتهى إليه، مقربا له املسافات، ومجسرا الهوة واملسافة، وجامعًا له ما تفرق في املؤلفات، بميسم االختيار الراقي، وحسن االلتقاط البارع في االنتقاء، مقدمًا له وجبة دسمة من املعرفة، وطائفة من األمثال والــحــكــم املــصــاغــة نــثــرًا رائــقــًا وشــعــرًا صــداحــًا، بما يتيح للقارئ وقتًا للمتعة، وحديقة يقطف منها ما شاء من أزهارها املفوفة، واستدعاء ما طاب له منها في مقامات االستشهاد والتأسي واالعتبار واملفاكهة.. غاية ما يمكنني قوله في حق الكتاب ومؤلفه، أنــه جــاء مـــرآة لنفس عــامــرة بالحسن والجمال، محبة للخير، عظيمة االهـتـمـام بـاملـعـرفـة، حرية على رائق املعاني، وجزل العبارات، ففي ثنايا هذه االلتقاطات الثرية يمكن للقارئ أن يهتدي إلى شخصية املـؤلـف، الــذي يستحق منا املحبة والتقدير، ولهذا الكتاب الحظ مـن القبول والــذيــوع فإنه يستحق أن يـقـرأ، وقمني بــأن يقتني، وجدير باملطالعة والنظر. الحياة حكاية وكـل شخﺺ ظل لحكاية لها بداية ولها مﱳ ونهاية، والحكايات كما البصمات ال تتشابه. تــجــربــة جـمـيـلـة لــيــت كـــل مــتــقــاعــد يــبــحــث فـــي ســحــارتــه عـــن ذكرياته ويمنحها تذكرة عبور ليستفيد منها الجيل ويتعلم.